تقييم نضال الشعوب لن يتم عن طريق مفهوم الربح والخسارة

TT

أمام هذه السوق الكاسدة للكلمة وأمام هذه السوق المزدهرة للافعال والتضحيات يأتي احد القراء في «الشرق الأوسط» ليطالعنا في العدد رقم 8571 بمقالة تحت عنوان «حساب الربح والخسارة في العمليات الانتحارية». فحوى المقالة يشير إلى ان العمليات الاستشهادية ـ يسميها القارئ انتحارية ـ لا تؤدي في النهاية الا الى المزيد من الخسارة للشعب الفلسطيني اما من يدفع الشباب لهذا الانتحار فهم مفتو القنوات الفضائية.

ولنأتي سريعا على ابرز نقاط المقالة، فأولاً وبصرف النظر عن ان الوقت ليس وقت التنظير لأساليب المقاومة بل وقت الالتفاف حولها ـ المقاومة ـ والجلوس مع الشعب الفلسطيني في خندق واحد، نرى أن من افتى بجواز تلك العمليات الاستشهادية هم علماء اجلاء لا يستطيع احد ان يقدح في علمهم أو تقواهم سواء طلوا علينا من خلال القنوات الفضائية أو من غيرها.

ثانياً: يجب الا ننسى في هذه المسألة ان البادئ اظلم، فالعدو الصهيوني لم يتورع من قديم عن ارتكاب ابشع انواع القتل وأسوأ المذابح لتحرق احلامه في قيام دولته، اما حديثا فمخيم جنين لا يزال شاهدا حياً على وحشية هذا العدو سواء اتفقنا مع تلك العمليات أو اختلفنا، فإن خير شاهد على جدوى تلك العمليات انها آتت بعض اكلها وهي مقالة للكاتب المتميز توماس فريدمان نشرتها «الشرق الأوسط» في يوم 29/4/2002، واكد فيها بصورة مباشرة وبكلام صريح ان تلك العمليات جعلت اسرائيل اكثر استعدادا من أي وقت للتخلي عن الأراضي الفلسطينية.

ثالثاً: بالنسبة لما ذكره القارئ الكريم من أن تلك العمليات ظاهرة غريبة على العرب والمسلمين اود القول ان العرب والمسلمين عرفوا منذ القدم قيمة تلك التضحيات وان اختلف الاسلوب او التكتيك تبعا لاختلاف الزمن.

رابعاً: يثني القارئ على اسلوب غاندي في مواجهة الاحتلال البريطاني. وعن هذه النقطة بالذات تكلم فهمي هويدي في «الشرق الأوسط» عدد 8576 وذكر حسب المقال، ان فكرة اللاعنف وان افادت في بلد معين فلا يعني انها قد تنجح في بلد آخر كما ان استخدام اللاعنف وان افاد في حالات معينة فذلك لا يعني بالضرورة الغاء أو فساد الوسائل الاخرى. وتأكيدا لكلام الكاتب هويدي علينا ان نتذكر ربيع بكين في يونيو (حزيران) 1989 وكيف تم سحق تلك المظاهرة السلمية على مشهد من العالم اجمع رغم ان المتظاهرين كانوا يحملون الزهور والورود.

خامساً واخيرا، وفي حالات تاريخية عصيبة وحاسمة ومؤلمة وفي ظروف بالغة المأساوية كالتي يعيشها الشعب الفلسطيني وفي مجتمع دولي غير عادل، لا يمكن ادخال العمليات الاستشهادية ضمن كشوفات الربح والخسارة. ان المكان الصحيح لتقييم تلك العمليات يدخل ضمن حسابات الواجب والمسؤولية شأن كل القضايا الوطنية والدينية الكبرى، انه حساب الواجب الذي عجزنا عن القيام به طيلة نصف قرن واكثر، والمسؤولية التي عجزنا عن ادائها بينما يحاول البعض منا ان يدفع الغير ليتخلى هو ايضا عنها.