هل يمكن محاكمة التيار الإسلامي باعتباره طبيبة محجبة أيها القشطيني؟!

TT

مشكلة خالد القشطيني سقوطه بالتعميم. فإذا فضل طبيبته السافرة «نكّل» بالأخرى، لا لكونها غير ماهرة بل لكونها طبيبة محجبة. وبنفس سياق الروح التعميمية يهاجم التيار الإسلامي ويعتبره تياراً واحداً، في الوقت الذي كان عليه التمييز بين القوى السياسية الإسلامية ومناشئ بيئاتها الفكرية المختلفة، كل حسب خطابه وشفافية أدواته الفقهية والروحية، وجاذبية قياداته ومرجعياته الدينية. ولا يعمم «تطرف بعض القوى» ليهاجم القوى الأخرى التي لا تؤمن بالعنف سبيلاً للوصول إلى السلطة، وكأننا نعيش نفس أدوات العصر الستاليني، بالرغم من سقوط التجربة الشيوعية في مهدها، وإقلاع الشيوعيين عن خطاب التحريض والعنف والتطرف السياسي وانسجامهم مع الطروحات والثوابت المتسالم عليها في الوصول إلى الديمقراطية والحرية وكرامة الناس.

يبدو لي أن القشطيني يعاني من عقدة الطبيبة المحجبة بشكل غير طبيعي. وهو لا يفتأ يذكر نفسه ويذكر القراء بعدائه للحجاب، وهو مسألة شخصية قبل أن يكون مسألة شرعية، وموقفاً من السفور للتدليل، في النهاية، على موقف سياسي وفكري من المشروع الإسلامي المعاصر، في الوقت الذي لم يطلب أحد من القشطيني أن يكون على هذه المسافة التي تبدو، في غالب الأحيان، «فجة». وهو يفلسف طروحاته وآراءه إزاء القوى السياسية، خصوصاً الإسلامية منها في العراق والعالم العربي. إن القول بأن الأحزاب الإسلامية لا تعرف الطريق إلى الممارسة السياسية الواقعية والشفافية الفكرية مع الناس وإدارة السلطة، عكس العلمانية التي تمتلك هامشاً واسعاً من الواقعيات السياسية، قول يحمل الكثير من المغالطة. فهناك دول علمانية سقطت في إعصار الانتفاضات والثورات والاحتجاجات الجماهيرية، واندثرت، وانتهت في الحياة السياسية على وقع بساطير العسكر، ليس في عالمنا العربي فحسب، بل وحتى في أوروبا الشرقية التي يحن القشطيني إلى بعض أيام عواصمها. وما جرى في تبليسي قبل أيام، خير شاهد على زوال «علمانية» بعض القوى التي تحن إلى زمان الشيوعية، وصعود نجم قوى سياسية لا علاقة لها بفلسفة التحريم والتحليل السياسي الذي يطرحه القشطيني بحدة في كتاباته.

إنني اعتبر التيار الإسلامي جزءا لا يتجزأ من واقع النسيج الاجتماعي والسياسي في الأمة، ورقماً أساسياً في حركة النهضة العربية، وعنصراً بارزاً من عناصر ديمومتها وفاعليتها، مثلما يشكل محوراً مهماً في «الحركة الجوهرية» لصعود هذه الأمة واستعادتها لسيادتها الكونية في الحياة، مثلما أعتبر القوى السياسية العلمانية جزءا لا يتجزأ من خيارات شرائح حقيقية في الأمة، تحاول أن تطور من حال شعوبها عبر هذا المزج والتشابك والنسج والتوفيق ما بين الإسلام كمخزون وتراث وحافز وتاريخ واستمرارية حركية، وما بين واقعيات التنمية والنهضة، وإخراج شعوبنا العربية من ظلام الأفكار المتطرفة، إلى فجر فكري له علاقة بالوعي ولا يؤمن بالقطيعة مع الآخر. إن تشبيه «الإسلامية» بالعهود الستالينية التي ذبحت من أجل «تأصيل» مبادئها المستبدة، خصوصاً في ثورتها الزراعية أكثر من أربعة عشر مليون إنسان، حسب ما هو مثبت في الأدبيات الماركسية العربية الحديثة، تشبيه ناقم وليس تشبيهاً عادلاً. وأتطلع مع غيري من القراء والكتاب العرب، إلى رؤية للقشطيني أكثر هدوءا وتناولاً في الطرح، يخرج نفسه عبرها من دائرة الصدام مع الواقعيات المتسالم عليها في الأمة، ولا يضع جريدة «الشرق الأوسط» ونزاهة رئيس تحريرها، عبد الرحمن الراشد، في دائرة الحرج والتساؤل. فلقد عودتنا شقيقتنا الخضراء أن تكون على مسافة واحدة من كل القضايا المصيرية والتاريخية، وهذا ما دأبت عليه منذ صدورها. إن عصفوراً متمرداً سيفسد إيقاع «النشيد الإنساني» لعصافير البستان الإعلامي العربي، وقد يزداد الأمر سوءا إذا كان صوت هذا العصفور المتمرد، فيه غلظة الشيخوخة وقسوة القياس والرهان على صحة حسابات العقلية الستالينية القديمة.