تصورات جلبي عن العنف تعارض الفهم لوقائع التاريخ

TT

يلاحظ المرء كيف ترك الكاتب خالص الجلبي في المقال الذي نشر له في جريدة «الشرق الأوسط» بعنوان «كيف نشأ العنف في التاريخ»، العدد 8058، قصده من حشد هذا العدد الكبير من النصوص المقتبسة من أعمال بعض الكتّاب من دون مراعاة الزمان والمكان، إذ كان يقصد تشتيت ذهن القارئ أكثر منه إلى أن يوفر لنفسه حججاً تسهل الفهم. لا يخفى على الإنسان المدرك حقيقة، أن الكاتب الذي أكد في مقاله أن النتائج التي خرج بها «علم النفس من المدرسة الأميركية» ـ على حد قوله ـ «احدثت ذعراً بين المطلعين»، هكذا من دون ذكر هوية هؤلاء؟. بسبب «ان الانصياع للأوامر تؤدي إلى إمكانية ممارسة التعذيب ضد الإنسان»، وعلى عكس توقعاتنا يترك «المدرسة الأميركية» ويلجأ إلى فيلم «اغتيال رئيس» ليستخلص من خلاله أن «تكرار التجربة»، التعذيب»، أثبت أن %60 قابلون للسقوط في هذه الوهدة» وذلك أنه حين «يرفع الفولتاج إلى 450 فولتا» انه يتلاعب بعقولنا، إذ كيف له اعتمادا على فيلم يخضع «للفانتازيا» لاستخلاص الحقيقة المتوهمة %60، بالإضافة إلى الدرجة العالية للتيار الكهربائي (450) فولتا، منطقيا قد تحول الجسد إلى قطعة متفحمة. وعليه، جاء تأكيده أن «كل جيوش العالم مختزلة بإرادة الأفراد»، لماذا؟ لأن «الجندي عليه أن ينفذ الأوامر أولا قبل الاعتراض في استباحة أي شيء»، ويواجه هذا الاستنتاج بالحكم المطلق معتقدا أن «الطاعة» «مخالفة جوهرية لتعاليم الأنبياء» (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، وإذا كانت الحجة بالحجة فكيف يفسر لنا ما جاء في القرآن: «وأطيعوا اللّه ورسوله وأولي الأمر منكم»؟. ان تلك التصورات التي بنيت على توهم أن «الجندي عنده استعداد ان يفعل كل محرم وإثم تحت مبرر (هكذا جاءت الأوامر) لا تعارض المنطق فحسب، بل تضع الجيش المعتدي ـ بكسر الدال ـ على المستوى نفسه والجيش المعتدى عليه. وإذا أخذنا الغزو العراقي للكويت، نجد جيشا يعتدي على دولة ذات سيادة، فهل يستوي الجيشان؟، ولماذا نفذ الجندي تلك الأوامر؟، وهل كان على الجندي الكويتي أن يلتقي المعتدي بالاحضان؟.

يقع الكاتب في خطأ آخر، اذ يستشهد بمقطع يجتزئه من كتاب روجيه جارودي، كتابه «نحو رقي المرأة» الذي يرى أن «هذا الانحراف في مسيرة البشرية كان خلف بناء المؤسسات العسكرية (الذكورية)، ودفع المرأة إلى شريحة دونية مستضعفة. ويرى في مثل هذه اللاعقلانية نتيجة تحول «الحكم للعضلات والسيف» بدل «الفهم والرحمة»، لكن وضع المعادلة خارج الإطار الاجتماعي (متى؟)، وبهذا التصور يعارض الفهم لوقائع التاريخ. ولنسأل: هل كان «الحكم للعضلات والسيف» على مدى التاريخ؟، الجواب نجده في تعليل جارودي الذي يتحدث عن «الانحراف في مسيرة البشرية»، وبهذا المعنى نتصور أن يكون هذا قبل انبعاث الدولة، إذ كان يسود في الماضي السحيق (المشاعية) قبل ظهور معادلة «الذي يملك ومن لا يملكون» كان مبدأ العدل والمساواة يسود في علاقات الناس في المجتمع، وسبب ذلك هو حاجة الناس بعضهم لبعض لمجابهة تحديات الطبيعة (البيئة) القاسية، وهذه الخاصية التكاملية هي السبب في منع ظهور الاستبداد في العلاقات السائدة لمرحلة متقدمة من التطور، ومع ظهور الأسرة نجد المرأة تملك حريتها والرجل كذلك، وكل منهما سلطان في تخصصه: المرأة ترعى شؤون السكن وتبقى محافظة على النار مشتعلة وتعد الطعام وما يلزم من غزل وحياكة وزراعة، بينما الرجل قد تخصص في القتال وصيد الحيوانات والأسماك.

ما الذي دفع المرأة من عليائها وجعلها «شريحة دونية»؟، جارودي يرى السبب في «المؤسسات العسكرية الذكورية»، إذا كان هذا هو الصواب، فلماذا سيطرت المرأة على الرجل قبل سيادة النظام «البطريركي» (الأبوي)؟، ان دل هذا على شيء، فإنما يدل ان ما حدث ليس ما يدعيه جلبي، إنما جاء هذا نتيجة لتطور ادوات العمل، فتحررت ارادة الفرد (قوى الإنتاج) وتبدلت علاقات المنفعة المتبادلة فدفع بخطوة للوراء بمبدأ التقسيم المتكافئ «للخيرات المادية» (الإنتاج) ونزع عن المرأة ما عرف بحق «الأمومة» فتراجعت وتقدم الرجل.

لن نسهب في هذا المقال، نقد مغالطات جلبي التي وردت في مقاله بذريعة ان ـ حسب قوله ـ «هذا التسلسل ـ مفيد ـ للاطلال على بانوراما التطور الإنساني واكتشاف مكان الدولة» ليس هذا انتقاصا، إنما نترك هذا لمناسبة أخرى سنرد فيها على موضوع جلبي آخر جاء في صحيفة «الشرق الأوسط» بعنوان: «بقايا عظمية متحجرة كشفت عن اقدم إنسان..»، وسنركز هنا في البحث عن العلاقة بين العنف واكتشاف مكان الدولة لاختلافنا معه (جلبي) في التصورات التي أوردها مقاله لكي ندرك سر «التفكيك الاجتماعي والانثروبولوجي لعنف الدولة» بعيدا عن التصورات الوهمية المخادعة. وأول ما يتوارد لذهن المطالع لمقاله، هو السؤال عن ما إذا كانت الدولة قد جاءت حقا «تتويجا لولادة المجتمع الإنساني» كما يدعي؟ فإذا كان معه الصواب، فلماذا سبق العنف ظهور الدولة؟.

إذا واجهنا جلبي بالسؤال الذي عنّ لنا يستنجد بابن خلدون قائلا «إن المجتمع الإنساني يشكل (ضرورة) انطلاقا من حجتين: (تأمين الغذاء) و(نظام الحماية)، ولكن هل ترى يتحدث ابن خلدون عن الدولة أم عن ما يسميه جلبي «المجتمع الإنساني»؟، ويزداد غموض الصورة ذلك الاعتقاد ان «اختراع (الدولة) كان تتويجا لولادة المجتمع الإنساني بعد بزوغ ما لا يقل عن ثلاثين حضارة من رحم 600 مجتمع بدائي» لكن هذا التأكيد لا يوضح حقيقة «المجتمع الإنساني» لأننا لا نفهم هنا ما إذا كان القصد هو المجتمع لذاته أم الدولة كمؤسسة لإدارة المجتمع؟، ولا يتضح لنا من السياق ما إذا كان تأمين الغذاء ونظام الحماية لأفراد المجتمع من دون تمييز أو تمايز لا بد أن يكون الواقع غير هذا، إذ عندها تنتفي الضرورة التي يتحدث عنها. وفي السياق نفسه، يصعب علينا فهم مبدأ (نظام الحماية) الذي يرى فيه الكاتب (جلبي) علّة نشأة «مؤسسة العنف» لأن «العنف» لا ينشأ لذاته، إنما ليصبح آلية تسلط ضد طرف آخر وإلا لأصبح مفهوم العنف سوقيا ونفيا لما جاء به على لسان ابن خلدون. ولن يعمينا عن الحقيقة سرد العلامات البارزة للتطور «العلمي» من طباعة وكهرباء وتقنيات حديثة في العصر الإلكتروني لأنها وردت بقصد تشتيت الذهن ليس إلا.

إن جلبي مولع بحشد الرهانات والتلاعب بالحقائق وتقديمها مبتورة ومشوهة، بحيث لا ندري ماهية العلاقة بين الدولة التي ولدت «تتويجا لولادة المجتمع الإنساني» للقيام بتأمين الغذاء ونظام الحماية وبين «ان الثورة الزراعية حررت الإنسان من الجوع للمرة الأولى في تاريخه وكان ذلك قبل تسعة آلاف سنة» وإذا كان الأمر كذلك فلا بد أن تكون للدولة وظيفة أخرى غير ما ذكر.

ولإزاحة الغموض حول مسألة متعلقة بنشأة الدولة التي يقولها إنها «ولدت مع مجتمع المدينة وتقسيم العمل» ما معنى هذا؟ إذا عدنا لحياة الإنسان في الطبيعة وقت ان كان في البدايات لم يكن يملك سلاحا يؤمن به حياته سوى يديه وأسنانه وفي معترك الحياة تعلم استخدام الأدوات المتوفرة حوله (الطبيعة) كاستخدامه قطعة حجر أو فرع شجرة ومعتمدا في غذائه على جمع الثمار وجذور النباتات وصيد الحيوانات الصغيرة. ومع تكدس الخبرة انتقل من أدنى مراحل الوحشية (التوحش) إلى مرحلتها الوسطى ثم اكتشافه سر استخدام النار وتسخيرها لمنفعته في افزاع الحيوانات المفترسة وتعلم ان ينضج اللحم على أوارها فاستفاد جسمه لسهولة امتصاص الطعام اكثر من ذي قبل، وعندما تمكن من استيلاد النار عن طريق الاحتكاك انفصل كلية عن عالم الحيوان وتعلم لغة الاتصال (التفاهم) بين الجماعة.