الحب مذاهب وليس فذلكات

TT

عشقتها شمطاء شاب وليدها وللناس في ما يعشقون مذاهب الحب وما أدراك ما الحب، والمعنى في بطن الشاعر يا محيي الدين اللاذقاني، تأكيداً على شهادتك في زاويتك التي تزيّن فيها وبها ما بين الحين والآخر صفحة الثقافة في جريدة «الشرق الأوسط» ففي العدد رقم 8114 في 1421/11/20هـ، لي مأخذ عليك في استقائك من شعر وشعراء العجم وكأن تراثنا العربي غير حافل بالقيم الإنسانية والفنية والحضارية وأسمى ما فيه الحب وليس فذلكات، بل هو أنواع ومذاهب لعل التوفيق يكون لي خير رفيق في استعراض بعض هذه المذاهب بقدر ما استطيع من الإيجاز.

أولا: المذهب الربعي، ويعود نسبه إلى أبي الخطاب فتى قريش المدلل المدعو عمر بن عبد الله بن ربيعة القرشي المخزومي أشعر قريش:

ليتَ هنداً أنجزتْنا ما تعِد وشفَت أنفسنا مما نجد صاحب هذا المذهب لا يمدح ولا يهجو، فهو شاعر مطبوع يدور شعره في موضوع واحد هو الغزل.. شاعر كل ديوانه سلة حب كبيرة مليئة بورود الحب يفرقها على عشيقاته.. صاحب هذا المذهب معجب بنفسه كثيراً يرى أن الحسناوات يتهافتن عليه وأنه المطلوب وليس الطالب ويتميز صاحب هذا المذهب بالجاذبية:

ثم اسبطرت تشتد في أثري تسأل أهل الطواف عن عمر ثانيا: المذهب القيسي، لا يذكر الحب عامة أو خاصة إلاّ ويُذكر هذا المجنون صريع الحب قيس ابن الملوّح مجنون ليلى. هذا الاسم الاسطورة، الذي صار مثلاً وعلماً للحب الصادق، الذي ذهب بعقل صاحبه وصرعه وقتله. لطفك يا رب ومن الحب ما قتل. ويُعد هذا النوع من الحب الخالد وهذا المذهب كله عسلٌ صاف والشهد في قصيدته المسمّاة «المؤنِسة»، ولضيق المكان وعذري بالإيجاز وقبل هذا وبعده أرى أن قصيدته المؤنسة قطعة أرجوانية يطيب لي أن استعرضها لكم في قادم الأيام إن شاء اللّه. ونقف في هذه العجالة مع وصف حبه الجارف القوي العارم الذي نحسه ونلمسه في هذه المقطوعة:

نهاري نهار الناس حتى إذا بدا لي الليلُ هزّتني إليك المضاجعُ أقضي نهاري بالحديث وبالمُنى ويجمعني الهم في الليل جامعُ لقد ثبتَتْ في القلب منك محبةٌ كما ثبتَتْ في الراحتيْن الأصابعُ ثالثا: المذهب اليزيدي، ثاني خلفاء بني أمية يزيد بن معاوية.. ويتميز هذا المذهب بالترَف ورفاهية العيش ونعيمه، حب تدلل ونعيم وترف، عشق أهل القصور ويمثلهم عاشق، وهو أمير في قوله:

خذوا بدمي ذاتَ الوشاح فإنني رأيتُ بعيني في أناملها دمي ولا تقتلوها إن ظفرتم بقتلها بلى خيّروها بعد موتي بمأثمي صاحب هذا المذهب يتميز بالاستعارات والصور الشعرية الرائعة، وقد هام بعده بها البلاغيون وأهل البديع استشهاداً وتحليلاً. وصاحب هذا المذهب مدهش للغاية، تخيلوا ست صور مجتمعة في بيت واحد، يحق له ثاني خلفاء بني أمية ولا يعصيه سلطان الشعر لمكانه ومكانته، لا سيما وهو يعبر عن عاطفة أبناء القصور:

وأمطرتْ لؤلؤاً من نرجس وسقتْ ورداً وعضَّتْ على العِنَّابِ بالبَرَدِ رابعا: المذهب الحمداني لأبي فراس الحمداني، أمير وعاشق وفارس من الطراز الأول، يذوب رقة وعاطفة، ولكن في اعتزاز وشموخ من خلال نفس أبيّة ترفض جملة وتفصيلا كل ذلة ومهانة ولا تعرف إلا الشجاعة والإقدام. ويتميز هذا المذهب بالشموخ في حبه وحربه:

أراك عصيّ الدمع شيمتُك الصبرُ أما للهَوى نهْيٌ عليك ولا أمرُ بلَى أنا مشتاقٌ وعنديَ لوعةٌ ولكنّ مثلي لا يُذاعُ له سِرُّ خامساً: المذهب الأندلسي، حيث الخضرة والماء. الملوك شعراء والشعراء ملوك والحب ملَكي إمارةٌ تعشق إمارة ومملكةٌ تذوب في مملكة.. ورجائي من الباحثين والدارسين لعلهم يجلون لنا ما غيّبه الزمان عنا في تلك البلاد ـ التي حسرتها في قلبي تمزِّق الفؤاد ـ بحكم أن لنا إرثاً كبيرا وكثيراً أعاده اللّه إلينا وهو على كل شيء قدير.

ويقودني الحديث إلى أشهر صوت شعري عربي انطلق في ربوع الأندلس، وهو الكاتب والشاعر والوزير والعاشق أبو الوليد أحمد بن زيدون بحتريّ الغرب رقيق التعبير رائع الأسلوب. وينفرد هذا المذهب عن غيره بحب النخبة أو الحب النخبوي..

أضحَى التنائي بديلا من تدانينا ونابَ عن طيب لقيانا تجافينا ألا وقد حان صُبح البَيْنِ صبحنا حينٌ فقامَ بنا للحين ناعينا سادسا: مذهب الدكتور إبراهيم ناجي، أرى أنه لا يوجد في الدكتور شيء يجلب له الحسان، فهو قصير القامة ضئيل الجسم انطوائي يحمل مزاجا رومانتيكيا، لديه حساسية مفرطة وتغلب على صاحب هذا المذهب سمات الحزن والانطواء. ولنا في الأطلال وقفة خاصة، لا سيما مع اقترانها بصوت أم كلثوم، وذيوعها في الشرق والغرب إلى يومنا هذا، فلا أظن أحداً من يعرب وقحطان إلاّ وردد:

يا فؤادي رحم اللّه الهوى كان صرحاً من خيالٍ فهوَى اسقني واشرب على أطلاله واروِ عنِّي طالما الدمعُ روَى في نهاية المطاف وقبل أن أطوي هذه الرسالة، أرى أن الحب بمذاهبه المذكورة والمستورة، قد حرك وهزّ عواطف الشعراء فهنيئاً لمن عشق وهو شاعر ولمن شعر وهو محب. هذه فذلكاتي أيها الدكتور اللاذقاني.. واستر واعذر وسلامتك.