الأصولية الثقافية والطيب صالح ورواية كل ربع قرن

TT

اعرب الطيب صالح، الروائي السوداني صاحب رواية «موسم الهجرة الى الشمال»، على هامش المهرجان الوطني للتراث والثقافة «الجنادرية» في الرياض في حديث لـ «الشرق الأوسط» عن «انزعاجه» مجرد انزعاج من المد الاصولي الذي بات يشن هجمات منظمة ضد الكتاب وأعلام الادب انطلاقا من خلفية سياسية لها غايتها.

لماذا لم يبد الطيب صالح خشيته من تصاعد ظاهرة «الاصولية الثقافية»؟ ربما لانه يعتقد انها «ظاهرة» عابرة ولا يظن «انها تؤثر في انتاج الادباء»، وأن اكثر ما ستفعله أنها «سوف تخل بالعلاقة بين الكاتب والجمهور، وتحدث بلبلة لا معنى لها ولا فائدة منها».

لا يبدو أن الطيب صالح يقف على طبيعة الظاهرة، وانها تريد خلق هذا الانفصام بين الانتاج الثقافي، بما في ذلك الادب لدرجة بات معها يتخوف أي كاتب من المجازفة ليطبع كتابا بأكثر من ثلاثة آلاف نسخة لانه لا يضمن استرداد التكلفة.

صحيح أن هناك أزمة حقيقة في واقع الثقافة بسبب الضائقة المالية التي تمر بها المجتمعات العربية، لدرجة اصبح معها شراء كتاب يتم على حساب اقتطاع الثمن من لقمة الخبز. وفي مثل تلك الظروف تأتي «الأصولية» لتعلن الحرب على الادب والأدباء فيصبح الكاتب امام معضلة حقيقية، اذ ما فائدة الانتاج الذي لا يأتي بمردود مالي؟ فينصرف عن الكتابة الى مهنة لا تأتي «بوجع الرأس». ربما ان الطيب صالح لا يشعر بحقيقة الأزمة لأنه كاتب مقل الانتاج، رواية كل ربع قرن، وهو لا يكترث كثيراً بعائدات ما يبدعه على صعيد القصة والذي يشعر هو من يجد يده في نار الابداع المستمر، وليس كل كاتب له حظ الطيب ليجد المؤسسة التي تتولى طباعة انتاجه.

تساعد الاصولية في تطاولها بالتعدي على حقوق الكاتب، «العناصر» التي تهوى الصيد في الماء «العكر» وتأتي بانتقادات مبنية على الانطباع الآني ودون تبصر بحقيقة ان النقد هو في الحقيقة يوازي، ان لم يكن أفضل من النص المفقود لأنه في هكذا حالة يستشف العمل ويتكشف خباياه ثم يعمل بمبضع الجراح في تحليل النص في اطار مدرسة نقدية يتبنى مبادئها. للنقد الادبي ـ ايضا ـ مدارس ومنهجية يجب احترامها لأن النقد الى جانب كونه فنا فهو علم كذلك... ان اسوأ انواع النقد هو ذلك الذي يبنى على الانطباع والتخريجات، عملا بالمثل «قل كلمتك والسلام». ان النقد الذي يقوم اعتمادا على «الشتيمة» ـ السباب ـ ليس نقدا لأنه لا يخدم الادب ولا يفيد الاديب لأنه نقد غايته الهدم من دون ان يقدم البديل.

ان الاصولية الثقافية هي امتداد للأصولية السياسية، وكذب الادعاء بغير ذلك. وبهذا المعنى علينا تأمل ما قاله الطيب صالح: «إنني لا افهم كيف يمكن ان نثير الزوابع في قضايا كان يفترض أن العالم قد اتفق عليها من زمن طويل». هذا هو السؤال المطروح أمام العقلاء للبحث عن مخرج من ازمة الثقافة والفكر قبل ان تنتقل الاصولية من الكلام الى استخدام «الحديد والنار» لقمع الحركة الفكرية.