أنا أعمى.. إذن أنا موجود!.. أليس كذلك يا طه حسين؟

TT

سواد كبير ملأ قرابة الصفحة الثامنة من جريدة «الشرق الأوسط» عدد 8084 الصادر بتاريخ 15/1/2001، مقدماً مداخلات حول وجود طه حسين من عدمه وفق توجهات متباينة. تناولت معالجة مقال نشرته مجلة «الثقافية» في عدد ديسمبر (كانون الاول) 2000 لكاتبه راشد الرشود.

ولن أتعرض هنا للأسماء التي وردت في هذا السواد الحبري لا لأنني اخشى المواجهة وانما لأنني لم اطلع على ذلك الموضوع، ولست هنا ايضا مدافعا عن طه حسين أو غيره.. فالرجل ليس بحاجة اليَّ، ولهذا الأمر مختصوه. فقط أود أن ادلو بدلوي انا الآخر بصيغة أخف قدحاً من المواجهة (القضية) التي استهلت الصفحة بها اقدامها على التشكيك في وجود طه حسين. ولأنني أولاً قارئ نهم ومتتبع للشأن الأدبي الفكري والثقافي العربي بحكم انتمائي الى لغة الضاد واستناداً الى مرجعية دراسية تلقينية استمدت مقوماتها من فضاءات نهضة فكرية استمرت زهاء ثلاثة عقود من عمر الفكر العربي (1940 ـ 1970)، ولأنني مجرد حمار ادبي صبور ومتمرد من حين لآخر دون أن أصل الى حالة الوحشية النقدية، فإنني اتساءل عن الدافع الى اشارة «قضية»! كهذه لا أراها تخدم المتن الأدبي العربي في شيء وذلك لافتقارها الى مقومات الجدل العلمي بعيداً عن هرطقات الإثارة المجانية، خاصة اذا تعلق الأمر بالتشكيك في وجود رمز من رموز الأدب العربي في مرحلة دقيقة من مراحل الفكر العربي المتأرجح بين واقع الأمة واسقاطات وتداعيات الأزمات المحيطة بها، وبينها وبين تطلعاتها.

فإذا توقفنا عند اشارة (تاها هسين) كما جاء في المقالة، يمكن ان نتذكر كيف قرأ احدهم اسم الزعيم الصيني الأسبق (هوشي منه) مشكولاً فتحول الأمر الى هُوَ شيء مِنْهُ! وهذه معالجة سطحية لا ترقى الى ابجديات التعامل المضبوط مع آليات وميكانيزمات العمل النقدي، الشيء الذي جرها الى الاثارة الباهتة.

واستناداً الى هذا المنطق (منطق التغييب)، ولنفرض جدلاً ان طه حسين غير موجود! وأن مجموعة من الفاعلين في الحقل الفكري المصري أدباً وسياسة هي التي صنعت الرجل لخدمة اهداف معينة و«تمرير كذبتهم الكبيرة على العالمين العربي والغربي في آن..»، فإنني انطلاقا من هذه الفرضية يمكنني انا الآخر وبكل حرية، وتخفياً وراء حماريتي الفكرية والأدبية ان اشكك في بعض الرموز الفكرية والسياسية والاصلاحية لأجد نفسي في الاخير اتحدث عما يسمى بالأدب العربي والفكر العربي والحضارة العربية والانسان العربي... وهذا لعمري منتهى الجحود والعقوق والشح الفكري، واتساءل: هل يمكن اعتبار هذا سجالاً ادبياً مفضياً الى التنوير؟ وأين من هذا جلسات الصالونات الأدبية الشهيرة لروز اليوسف مثلا وغيرها كثير في مصر والشام.. وأين منها مقهى الفيشاوي في القاهرة، واخوانيات الشعر في الخليج، واين منها كذلك مطارحات حوار المشرق والمغرب بين عابد الجابري (المغرب) وحسن فتحي (مصر)؟

هل انتهت كل القضايا الفكرية العربية؟ ولم يعد أمام متنطعينا سوى الخوض في متاهات نقدية يمكن وصفها بالترف النقدي؟!.. فهل نحن بحاجة الى هذا الآن؟!.

أعترف أنني لا أفهم كيف سمح كاتب المقالة لنفسه بالسقوط في براثين التهور النقدي وهو (يعالج) ما أسماها بقضية، وهي ليست سوى جعجعة تصم الآذان ولا طحين ثم اذا سمحنا لأنفسنا بالخوض معه في هذا الجنون وهذه السفسطة فأين سنضع عباس محمود العقاد أو (الدكاترة) العقاد؟! وكيف سنحلل مساجلات الرجلين وقد تركت بصماتها على الأدب العربي لسنوات؟!. واذا أرخينا العنان لهذا الهوس فقد يطلع علينا يوماً مستهتر آخر يشكك في وجود نجيب محفوظ ويوسف السباعي وغازي القصيبي والجابري وأدونيس ولم لا المتنبي وأبي تمام والخنساء وهلم جرا ونقداً اندفاعيا وانفعاليا لا يخدم مسارات الانتاج العربي الفكري والثقافي بقدر ما يرميه بالسخف والانهزامية والتراجع.

لا تغضبوا أيها السادة، فهذه مجرد وجهة نظر من حمار أدبي ألتهم لسنوات برسيم طه حسين وتوفيق الحكيم والمنفلوطي والمتنبي والعقاد.. بل هو حمار يفتخر بأنه كان يوماً محور انتاج أدبي لتوفيق الحكيم: (حمار الحكيم) و(حماري وأنا)، لاحظوا كيف أنه سبق الحمار على نفسه في العنوان الأخير.. واترك اللاهثين خلف التميز المجاني على حساب ارثنا الفكري العربي. المتهافتين على التهافت وهم يجرأون على (تشبيح) طلائع امتنا العربية ولا يمكنني ان اقول في هذا الصدد سوى: لتتطاوس كما شئت في زمن عربي كل شيء فيه يسير في الاتجاه المعاكس للصواب والمنطق والموضوعية.. وتلك آفة من آفاتنا، وكم نحن بحاجة إلى دعاة للتنوير، خاصة في ما يتعلق بقضايانا المصيرية وعلى رأسها قضايانا الحضارية ومنها فكرنا العربي، أما نقدنا الأدبي فإنه بحاجة الى طوق نجاة ينقذه مما هو فيه من غرق.. أما البلل فقد ألفناه!.