ردا على الراشد: لا نريد تدخل الدول العربية في السودان

TT

إيمانا مني بنزاهة منبر صحيفتنا الخضراء، وسعة صدر القائمين عليها، أبعث إليكم بجهدي المتواضع وأرجو أن يجد حيزاً ولو سطراً واحداً.

أخي الكريم، ليس انتقاداً لمقالك عن السودان الذي صدر في العدد رقم 8233 بتاريخ 21 ربيع الأول 1422هـ، فأنت من دون إطراء، من الكتّاب الذين تُترقب أعمدتهم.

المتتبع لمقالاتك، التي يكون محورها السودان ومشاكله، تتناول شخص د. حسن الترابي، وكأنه المسؤول الأول والأخير عن مشاكل السودان المزمنة من فتن التمرد بالجنوب وإضرام نيران الحرب الأهلية، التي راح ضحيتها ملايين الضحايا الأبرياء من المدنيين، فضلا عن التشرد والجوع والفقر والمرض، وتدمير البنى التحتية إن وجدت. ومما يؤسف له حقاً، ان قضايا ومشاكل السودان أن نحملها شخص د. الترابي، وسوف يثبت التاريخ يوماً أن د. الترابي كان سيفاً فولاذياً دافع به السودان عن نفسه وكان نعم الابن البار بوطنه. ويكفيه فخراً بأن قدم كل فكره وجهده ونذر شبابه وحيويته وطاقته ليجعل للسودان شأناً بين الأمم، كما لا ننسى ان لكل جواد كبوة والإنسان غير معصوم من الخطأ، ولكل تجربة محاسن ومثالب والفشل والفلاح متلازمان، وأكبر أنواع الفشل إذا اتضح لك ان من كنت تعتبرهم ابناءك وتلامذتك مجرد نفعيين ومتسلقين، هذا هو البوار والخذلان.

المستعمر البغيض لم يكفه أن مصّ دماءنا وسرق خيراتنا بعد أن ضخ موارد اقتصادنا الزراعي في عروق اقتصاده، مما ساعده كثيرا على الحرب العالمية الثانية. وبعد هذا كله، زرع لنا فتنة أول تمرد في منتصف خمسينات القرن الماضي داخل الجيش. وبعدها اتخذ التمرد لنفسه أسماء متعددة، منها حركة أنانيا وأنانيا 2، التي وقعت اتفاقية اديس أبابا عام 1972 مع نظام نميري، الذي أدار ظهره للعهد والميثاق الذي قطعه معهم بأديس أبابا حفاظاً لسلطته، وكانت النتيجة تمرد الكتيبة 105 التي يقودها المتمرد الهالك كاربينو كوانين وحاول قائد المنطقة العسكرية حينذاك اللواء الركن صديق البنا ضبط إيقاع الكتيبة المتمردة، لكن النفوس كانت مضمرة شرا، وهكذا بدأ فصل جديد من التمرد وخرج أفراد الكتيبة إلى الغابة، ولحق بهم المتمرد جون قرنق ديماقيور الذي كان بمدينة بور متمتعاً بإجازته السنوية عام 1983.

ووصلت حركة التمرد إلى قمة انتصاراتها إبان حقبة الديمقراطية الثالثة، وبلغ الاستهتار من رجال الدولة قمته، وكانت تصرفاتهم أنكى على الشعب السوداني من ضربات حركة التمرد، ورأينا بأم أعيننا سباقهم الأرعن لاقتسام الغنيمة «دماء وعرق الشعب»، مطالبين بتعويضات للخسائر التي لحقت بهم من جراء ملاحقة عسكر نميري. وكنا نظن ان الصادق المهدي يترفع عن مثل هذه الزلات، لكنه للأسف انغمس حتى أذنيه متناسياً تاريخ جده الإمام وعفته وتاريخ حزبه والرجال الذين مروا كقادة للحزب مثل الإمام عبد الرحمن المهدي والإمام الهادي والاستاذ محمد أحمد المحجوب، تخطى هذا الإرث وضرب به عرض الحائط، ناسياً ان ذاكرة الشعب السوداني لا تنسى، ولحق بركب التعويضات الاستاذ عز الدين علي عامر يرحمه الله وغيرهم.

أخي الكريم الإمبريالية العالمية كما أنت تعلم، خلف كل مصائب ديار الإسلام، والله أعلم نحن لا نريد مناطحتهم أو مقارعتهم لأننا نعرف حدودنا وإمكاناتنا، وما نحن إلا دولة فقيرة من دول العالم النامي. ومصيبة الغرب، وأخص أميركا، انهم كالبراغيث، مصاصو دماء يعيشون عالة على دماء شعوب فقيرة لا حول لها ولا قوة، ويتطفلون على خيراتها بعد أن يثيروا النعرات العرقية، كما حدث بإقليم البحيرات بين التوتسي والهوتو، ويستغلون اختلاف العقيدة كما حدث في اندونيسيا وتيمور الشرقية، ويحدث عندنا الآن بالسودان، هذه هي الحضارة في عرفهم أن تقتل الميت وتمشي في جنازته، وأن تغذي طرفا بالسلاح والمؤن وتستقبل ضحايا الطرف الآخر في مخيمات اللاجئين بالإعانات الغذائية التالفة والأدوية التي شارفت على انتهاء المدة وتعمل فرق الغوث والاطباء تحت كاميرات شبكات وكالات إعلامهم وهم دائما ملء العدسات والعيون، هذه هي حضارتهم البائسة لا وازع دينيا يردعهم ولا إله يوحد.

وأنا كقارئ لـ «الشرق الأوسط» أشكر لك شعورك تجاه وطني ومناداتك بتدخل عربي لوضع حلول مناسبة للمشكلة السودانية التي تفاقمت، لكن يا أخي تدخل الدول العربية لا يفيد شيئاً، وأنا كفرد من الشعب السوداني، لا أعوّل كثيرا على أي دور عربي، والعرب إذا فيهم خير يجب أن يوفروه لمشاكل الأقصى الشريف وحل المشكلة الفلسطينية.

ماذا كسب شاه إيران، ألم يعش باقي عمره طريداً شريداً، من الأجدر أن يموت الإنسان شريفاً كما مات الرئيس لوران كابيلا الذي رفض أن يبيع ثروات بلاده مقابل استمراره في السلطة ودفع حياته ثمناً لموقفه الشريف. وهذا هو الرئيس فيدل كاسترو استمر في سلطته لنصف قرن من الزمان وهو يعتبر مثالا لمن عنده شهوة سلطة لأطول فترة حتى لا يُعتقد ان كل أوراق اللعب في يد الأميركان ولا يمكن الاستمرار من دونهم.

وفي تقديري، ان الشعب السوداني يكون ممتناً للشعوب الإسلامية والعربية لو التفتت لمشاكلها وحُررت القيود التي تكبلها، ومن لا يملك قراره لا يستطيع أن يقدم شيئا لا لنفسه ولا لإخوته، والحقيقة قرارنا مرتهن، ومن هنا يبدأ الحل، أي التفكير في امتلاك القرار، وهذا مبدأ ادخل د. الترابي خلف أسوار السجون. أما حكاية الطائرات العراقية والإذاعة الإيرانية، كلها ثانوية لا تقدم ولا تؤخر، ولنا من الإرادة والتصميم ما يكفينا بعد ستر المولى عز وجل.