كتابات للصيف.. والشتاء على وتر واحد!

TT

لم أفاجأ بما كتبه الصحافي سمير عطا الله عن فيديل كاسترو («الشرق الأوسط» 23/7/2001. كتابات للصيف.. سيجار رديء وغليون كريه)، كما لا تفاجئني كثيراً مقالات كثيرة ذاهبة في الاتجاه عينه، لكن المفاجئ أن «العرس» كان معقوداً في دار متعولمي جنوى، وتهنئة عطا الله جرت في جنازة ستالين، وقد ربط الكاتب بينه وبين كاسترو مروراً بابن لامنتري بيريا وبيريا نفسه، ذلك بعد مرور 50 سنة على وفاة ستالين، وعقد على «وفاة» الاتحاد السوفياتي.

من كل ما يحدث في الكون، حجز عطا الله عموده اليومي في جريدة العرب الدولية ليروي وعلى ذمة رجل أعمال أوروبي أن ما يحدث في الكون سببه (أو هكذا بدا لي) أن «البذلة الثورية الكاكية التي يرتديها الفيديلتو طوال الوقت، مصنوعة من حرير خالص يكاد المرء يتمرى به! وأنه كان يدخن السيجار باستمرار، لكنه توقف منذ سنوات «...»، وأن كاسترو لا يزال إلى اليوم لا ينام في منزل واحد، وعندما يعقد محادثات مع ضيوفه فهو يحدد مواعيدها بعد الحادية عشرة ليلاً».

في كل مرة نضطر لتوضيح كوننا لم نؤيد يوماً سلبيات الستالينية ولن نفعل، ولسنا في وارد الدفاع عن كاسترو فكل أجدر بالدفاع عن نفسه، وقد فعلت ذلك كوبا منذ أربعين سنة وبوجه أشرس قوة في القرن العشرين، على الرغم من حصار الولايات المتحدة الاقتصادي الشرس الذي لم أقرأ لعطا الله ولو إشارة إليه عابرة، بينما قرأت له أن نصف الشعب الكوبي لاجئ في فلوريدا.

ثم قال: «لا تزال كوبا تعيش في عام 1958، سياراتها من الخمسينات. وبيوتها من الأربعينات، وطرقاتها من أيام باتيستا، ولا يملك الشعب سوى الإعاشة، السكر (في بلاد السكر) بالإعاشة، والأرز بالإعاشة، واللحم بالأقة، والخبز بالطوابير».

هذا تنويع مواضيع على وتر واحد، أتذكر أني قرأت يوماً لسمير عطا الله ما يشبه الشعر والرومانسية عن ريف لبنان، والآن يعيب على كوبا بيوتاً عتيقة! ألم ير كيف أعمانا تلوث الحداثة؟ ألم يسمع بجوع البلدان التي صدقت اقتصاد السوق، فغدت بلا خبز وبلا إعاشة وبلا طوابير على غير دروب الفقر والمدافن؟ ألم يقرأ عن بؤساء الدول «العظمى» ومشرديها؟ لماذا لم يشر عطا الله إلى تفوق كوبا ـ الجزيرة الصغيرة ـ الطبي والرياضي والثقافي؟ لماذا لم يشر إلى انهيار مستويات العلوم والرياضات والأخلاق في دول ما بعد السوفيات، ولم يشر إلى أن نسبة الأمية في 16 جمهورية سوفياتية كانت صفراً عشية انهيار الاتحاد عام 1991 وغدت اليوم عام 2001 عشرة في المائة في روسيا وحدها (أي نحو 17 مليون أمي) وفق وكالة رويترز؟

لا بد هنا من ذكر أن الجهل أقوى أعداء الإنسانية، وأن الفارق شاسع بين المدنية والحضارة، يمكننا شراء سيارة وجوال وكومبيوتر وطرق وجسور وناطحات سحاب، لكن من أين نبتاع أخلاقا وهي لا تكتسب إلا بعقيدة ووعي وإيمان؟

وافترض ان كتابات عطا الله للصيف يرسلها من لبنان، وهي مناسبة لأسأله عن سبب لجوء ملايين الشعب اللبناني «وليس نصفه فقط» إلى أصقاع الأرض، فهم لم يهربوا من ستالين أو بيريا او كاسترو ولا كان في لبنان يوما نظام ماركسي ـ لينيني، بل طول عمره نظام اقتصادي حر، وفوضوي، ولم يهربوا من حرب الديوك بقدر ما هربوا من الديون، وعلى مر السنين.

وأتجاوز لبنان لاستفسر عن عشرات ملايين العرب الهاربين من مختلف أنواع الأوضاع ومن كل بلدان الجامعة العربية بلا استثناء، فهل تريدون اعتبار سبب لجوئهم قول عطا الله «وقد ترك ستالين تلامذة كثيرين في العالم العربي، وكان بعضهم يعكف شاربيه على طريقته. ومن حسن حظ الأمة أن هؤلاء ماتوا مخنوقين بروائح جثث ضحاياهم ولم يعمروا طويلا»، هل يرى عطا الله أن أمتنا الفاقدة أخلاقها الفروسية والمتقاعسة شهامتها عن نجدة أبنائها المقتولين في فلسطين والجائعين في لبنان والخائفين في الأردن والمحاصرين في العراق والبؤساء من المحيط إلى الخليج، هي لحسن الحظ؟

لكأن أمتنا الآن في أحلى حالاتها وهي واحة اسكندنافية في الشرق، أو لكأن الولايات المتحدة (ودول الغرب) نموذج يحتذى بإنجازات جبارة: منذ 1948 لها قاعدة عسكرية اقتصادية صهيونية بلا دستور ولا حدود في فلسطين المحتلة لمص دمنا (هل يبقى الحر الديمقراطي ديمقراطيا وحرا إذا قتل واستغل ليعيش؟)، %33 من الشعب الأميركي تحت خط الفقر (باعتراف وزير تجارته)، هوة أميركية سحيقة بين الغني والفقير (راجع تقارير الأمم المتحدة)، ثورة سياتل الأميركية (غالبا لا دخان بلا نار)، سباق تسلح قياسي، اعتداء متماد على بيئة الأرض ورفع وقح لنسبة الاحتباس الحراري ورفض لبروتوكول المناخ «كيوتو»، شفط النفط، ثم ماذا عن ديوننا، فهل بهذا النموذج تبشرون؟ ألم يعد يهمكم الآن رأي الرأي العام في خضم ترويجكم لديمقراطيتكم؟ لقد تركنا الرأسمالية المتوحشة تتصرف طويلا، انظروا إلى أين أوصلتنا.

ألم يسمع عطا الله شهادة الشاهد من أهل «العولمة» الرئيس الفرنسي جاك شيراك يدعو إلى «أنسنتها»؟ هذا ما يجب فعله في كل أمر، العولمة وسيلة أو نظرية أو واقع خاضع للتجربة، قد نستغلها للخير أو للشر كما فعلنا بالبارود والسيارة والكومبيوتر والاستنساخ والأديان والعقائد، العلة في نفوس مطلقيها ومستغليها وليست فيها، كل أمر تلزمه «أنسنة»، أطهر الأمور نقلبها شراً إن لم نتعاطاها بأخلاق.

وعلى افتراض أننا اعترفنا بالعولمة، كيف لا ينتقد كتّابنا فرضها علينا وعلى العالم أجمع من دون سؤال خاطر هذه الشعوب الجائعة، بينما ينتقدون كاسترو لفرض أسلوبه في جزيرة صغيرة جعلت ثورتها شهرتها عالمية في وقت تغفو دول عملاقة ولا نسمع بها أو نعرف عنها شىئاً أو أنها خرجت ولم تعد؟

لا يهرب إلى الحرية إلا قلة فقهت معناها، ويهرب من الجوع كل من يشعر به، لا تكلمونا عن كاسترو و«أقصر خطاباته يطول ثلاث ساعات ونصف الساعة. والمجد للثورة والثورة للجميع، والحرير بزة القائد»، كلمونا عن كل باقي العالم وقد اعتمد اقتصاد السوق كما تمنيتم، فماذا حدث؟ الدول الكبرى الغنية زادت غنى والدول النامية الفقيرة زادت فقراً، وضمن الدول الغنية والفقيرة زاد الأغنياء غنى والفقراء فقراً.

الشعوب تجوع وأنتم بالكم بسيجار كاسترو، أم تريدون أن يكون بالنا هناك للتمويه؟ إذا لم ير كاتب بحجم سمير عطا الله تململ الثورة الاجتماعية العالمية فكيف سيراها رجل عادي لا يعرف شيئا عن كاسترو، أم أن التغاضي عن سابق تصور وتصميم؟ هذا هروب مؤقت إلى الأمام أو محاولة يائسة للدفاع بشن هجوم جوراسي.