السودان بين ثقافة الوحدة والدولار الأميركي

TT

منذ سنوات طويلة وعبر تعليقاتي في صحيفة «الشرق الأوسط»، ادعو السودانيين في الشمال والشرق والغرب والجنوب ان يعملوا من اجل الحفاظ على وحدة السودان، وان ينسوا خلافاتهم في سبيل تقدم السودان في الصعد كافة، لكن بكل أسف في الوقت الذي يسعى العالم من حولنا نحو تحقيق التلاحم والوحدة واقامة تكتلات اقتصادية وسياسية نحن نسعى لتحويل السودان الى كنتونات تحارب بعضها بعضا، على الرغم من القواسم المشتركة العديدة بين السودانيين بحجة تحقيق الديمقراطية التي لم نعمل على تجذيرها وترسيخها وتجسيدها في حكمنا للبلاد والعباد. لم نستفد من تجارب الشعوب الأخرى ولم نقلدها، لا سيما ان تقليد الجوانب الايجابية من تجارب الامم يعتبر من الاسس الجوهرية للتربية والتنمية والتطوير في الميادين كافة، فدول اوروبا الغربية نسيت خلافاتها وجراحاتها من اجل تحقيق الوحدة الاوروبية وتخلت عن عملاتها المحلية واتخذت عملة واحدة لها هي اليورو، بينما اختفى من قاموسنا النقد الموضوعي الذي يهدف لكشف ومحاربة واستئصال السلبيات في حياتنا السياسية والاقتصادية والتعليمية والصحية والعسكرية والفنية.

وقد أشغلنا انفسنا شعبا وحكومة ومعارضة بموضوعات انصرافية، مثل من اين دخل الاسلام في السودان، أمن الشرق او الشمال او الغرب، وننسى ان المهم ليس في الولاية التي دخل منها الاسلام للسودان، بل المهم والجوهري هو ان الاسلام قد حقق التآخي والتضامن والوحدة والانسجام والتسامح بين السودانيين، بل ان السودانيين قد حملوا لواء الاسلام لمختلف الدول الافريقية والاسيوية وفي هذا الاطار فإن النخب السودانية من المؤرخين والاتصاليين والمعلمين وقادة الاحزاب الكرتونية قد ساهموا في تجهيل الاجيال الجديدة، فمعظم ابناء الجيل الجديد لا يعرفون من هو الحزب الذي سلم الحكم للفريق ابراهيم عبود في عام 1957، ومن هو الحزب الذي ساند وأيد الانقلاب المايوي في عام 1969، ومن هو الحزب الذي ساند وأيد الانقلاب الانقاذي في عام 1989. وفي اطار فلسفة تجهيل للرأي العام السوداني لم يسأل احد قادة الاحزاب الذين تولوا الحكم في السودان بعد سقوط الحكم المايوي، لماذا تخلت شركة شيفرون الاميركية عن تنقيب النفط في السودان، لا سيما انها هي التي اكتشفت البترول في السودان وبكميات تجارية ونقلت آلياتها الى الكاميرون عن طريق كوستي. ولماذا لم يعمل قادة الاحزاب في فترة الديمقراطية التي اعقبت الحكم المايوي على تكوين لجان لمعرفة اسباب توقف شركة شيفرون الاميركية عن الاستثمار في مجالات النفط في السودان؟ ولماذا لم يعملوا للتنقيب عن النفط في السودان؟.

وفي عام 1972 تم توقيع اتفاقية اديس ابابا وبفضلها تحقق السلام في السودان لمدة عشر سنوات وقد وضعت نسخ منها لدى منظمة الوحدة الافريقية والامم المتحدة والجامعة العربية وكانت بحق من اعظم الاتفاقات التي وقعت في القارة الافريقية وقد حضر توقيعها الامبراطور الاثيوبي الراحل هيلاسلاسي ووفد من الكنائس العالمية والوفد السوداني الذي كان من ابرز اعضائه الدكتور منصور خالد وابيل الير الذي شغل منصب نائب رئيس الجمهورية في الفترة المايوية ايضا، واللواء جوزيف لاقو الذي شغل منصب نائب رئيس الجمهورية في الفترة المايوية، والدكتور جعفر محمد علي بخيت وبدلا من ان نتخذ هذه الاتفاقية اساسا وكمرجعية لاقرار السلام في السودان ذهبنا لدول مجموعة الايقاد لكي تحل لنا مشاكلنا المفتعلة وتركنا وراء ظهورنا تجربتنا الثرية في حل النزاعات الاقليمية التي كنا نود ان تكون انموذجا نقدمها للشعوب التي تعاني من الحركة الانفصالية في اسباناي وسري لانكا واقليم كورسيكا في فرنسا والهند ومعظم دول العالم.

يلعب الدين دورا مهما في الولايات المتحدة الاميركية والدول الاوروبية كافة والدولار الاميركي الذي اسميه «المستر كي» لقدرته على فتح ابواب وجيوب (رجال السياسة والمال والذين يطالبون بتقسيم وحدة بلادهم تحت دعاوى مضللة) يحمل في طياته عبارة: اتق الله في الولايات المتحدة وهي اكبر دولة علمانية في الكرة الارضية يجد الكاثوليكي صعوبات جمة لكي يصل الى عتبة البيت الابيض، في ايطاليا البروتستنتي يجد سدودا عالية ولا يستطيع ان يجتاز شارع قصر الرئاسة، بينما في السودان الدستور الانقاذي يمكن المسيحي سواء كان كاثوليكيا ام بروتستانيا من الوصول الى قصر الشعب على ضفاف النيل الخالد. وفي مقدوري ان أورد مئات الامثلة لكي أؤكد ان الاديان السماوية التي تدعو للتسامح والمحبة تلعب دورا روحيا بارزا في المجتمعات البشرية، ولا يمكن ان تتخلى عنها البشرية الى ان يرث الله الارض ومن عليها، وها هي روسيا بعد سبعين عاما من الالحاد ووصفها للاديان بأنها «افيون الشعوب» تعود لحظيرة الدين وفي هذا الاطار فإن الدين الاسلامي لن يكون عقبة امام تحقيق السلام في السودان.

صفوة القول: من اجل انقاذ السودان من التمزق يجب علينا ان نعمل بالسرعة المطلوبة على تنفيذ المبادرة الليبية المصرية اذا كنا نريد حقا وحدة السودان، اما الحديث عن مزج كيميائي للمبادرة المصرية الليبية وفصل الدين عن الدولة فمثل هذا الحديث لن يحل مشاكلنا، لا سيما ان دول ايقاد فشلت منذ 12 عاما في تحقيق السلام في السودان.

=