ماذا تريدون يا دعاة الأفريقية والعروبية من السودان؟

TT

طالعت في صحيفة «الشرق الأوسط» السجال الدائر بين دعاة الافريقية والعروبية في السودان، وأسفت جدا للعودة إلى جاهلية القرن الواحد والعشرين في زمن تتوحد فيه الكيانات الصغيرة في كيانات أكبر حماية لنفسها من التغوّل الثقافي والاقتصادي والسياسي. ومن بديهيات هذا الكون ان الناس سواسية في كل الحقوق والواجبات مهما كان لونهم أو عرقهم أو دينهم «كلكم لآدم وآدم من تراب»، «إن أكرمكم عند الله أتقاكم»، فما هذه الدعاوى والصراعات والشعور بالتعالي أو الدونية عند طرف أو آخر، فلكل بشر في هذه الدنيا عقله وفكره ولونه ودينه الذي ارتضاه، ولنا أن نحترم ذلك وكل العالم يسير نحو هذا التوجه في سبيل التوبة من كل الظلامات التي حدثت في تاريخ البشرية من استعباد واضطهاد فكري وديني وعرقي.

والسودان بحدوده الحالية واحد من الشعوب المتميزة والبعيدة لحد كبير في مجال الاضطهاد الثقافي والعرقي والديني، وحتى تجارة الرقيق التي كانت سائدة كانت ترتبط بالأجانب أكثر من ارتباطها بالسودانيين أنفسهم، فتجارة الرقيق في السودان بدأت بعد الغزو التركي للسودان ولم يسجل لنا التاريخ قبل ذلك أي مظهر من مظاهر تجارة الرقيق في السودان، وحتى بعد الغزو التركي لم تكن تجارة الرقيق موجهة لقبيلة بعينها أو عنصر بعينه، لكن كان السبب الرئيسي هو ما اشتهر به السودانيون من شدة البأس والشجاعة، لذلك أراد محمد علي أن يدعم بهم جيشه فلم يكن الاسترقاق بغرض الخدمات الوضيعة، لكن كان محصورا في الجندية، لذلك لم يقصد النساء أو الضعاف إلا في بعض الحالات النادرة والتجاوزات القليلة من الرجال. واستمر هذا الحال الى ما بعد الفتح الانجليزي، حيث ابطلت تجارة الرقيق. وحتى السودانيون الذين شاركوا في هذه الجريمة لم يكن دينهم ولا قيمهم ولا اخلاقهم ولا تاريخهم تحبذ او تؤيد هذا السلوك. وحتى تكوينهم العرقي والجيني لا يؤيد ذلك، فكل سوداني يحمل في داخله الدماء الافريقية والدماء العربية بنسب متفاوتة ولا فرق بين خالد الكباشي وآدم النور إلا في النسبة المئوية نفسها، لكنهم جميعا من العنصر رضوا أم أبوا. اما الثقافة والفنون والعادات فهي نتاج البيئة الطبيعية لكل واحد منهم، فكلما كانوا أقرب إلى الصحراء كانت ثقافتهم أقرب إلى ثقافة البدو سواء كانوا في الجزيرة العربية أو في الصحراء الكبرى الافريقية، ولننظر للغة والأزياء وللموسيقى وللعادات عند بدو الصحراء غربا، عند الكبابيش والكواهلة والهواوير، أو شرقاً عند البشاريين والبني عامر والشكرية. أما السودانيون جنوب حزام السافنا فالبيئة مختلفة من أبالة إلى بقارة إلى غابات وحشائش وأمطار وطبيعة حياة مختلفة، فالإيقاع الموسيقي يختلف والعادات والتقاليد تختلف وتتباين والارتباط بالدول المجاورة وحركة الهجرات وحركة الحجاج وحركة الرعي كلها اضافات جديدة للثقافة في هذه المنطقة، وهذا لا يعلي من أمرها ولا يحط من قدرها في الوقت نفسه، وهناك ايضا الجنوب بكل لهجاته وعاداته وتقاليده، التي ليست بعيدة عما جاورها من ثقافة وعادات وتقاليد، ومناطق التماس خير شاهد على ذلك، ولا يوجد بالتالي في السودان حد فاصل ما بين الشمال والوسط وجنوب الوسط وجنوب البلاد، والمسألة متدرجة تدرجاً انسيابياً لوناً ولغة وعادات وتقاليد من حلفا إلى نيمولي، لذلك نقول لكم عودوا إلى صوابكم وتذكروا أنكم تحاولون تفتيت أمة بناها النوبيون قبل أكثر من عشرة آلاف سنة، أمة لها الفضل في اختراع أساسيات كل التكنولوجيا الحديثة.