رسالة إلى المحرر: رسائل المحاكمة المفتوحة لمرتكبي جرائم «أكديم إزيك» في المغرب

عبد الرحيم المنار أسليمي

TT

ما زال العالم يتذكر الصورة البشعة التي تناقلتها وسائل الإعلام العربية والدولية في الأيام التي أعقبت أحداث مخيم «أكديم إزيك» في مدينة العيون، كبرى مدن الصحراء المغربية، في الثامن من نوفمبر (تشرين الثاني) 2010. صورة شخص ملثم من الانفصاليين المجندين من طرف جبهة البوليساريو وهو يتبول على جثة رجل من الوقاية المدنية المغربية بعد قتله من طرف مجموعة أفراد والتمثيل بجثته، وما زال المغاربة يحملون في ذاكرتهم وقائع أحداث مخيم «أكديم إزيك» باعتبارها ضربة إرهابية شبيهة بتفجيرات الدار البيضاء، لأنه لا وجود لفعل إرهابي أكبر من أن يذبح أحد أفراد القوات المساعدة من طرف أحد الانفصاليين، ولا وجود لفعل إرهابي أكبر من سحب أحد أفراد الوقاية المدنية من سيارة الإسعاف وضربه حتى الموت، وإهانة جثته، فليست هناك ديانة أو معتقد أو فكر في تاريخ البشرية يدعو إلى التمثيل بجثث القتلى.

هذه الصور البشعة والذكريات المرة، تعود اليوم بمناسبة انطلاق محاكمة اثنين وعشرين فردا من المتهمين بارتكاب جرائم أحداث «أكديم إزيك»، تعود وقد تغيرت أشياء كثيرة في المملكة المغربية منذ نوفمبر 2010 حتى اليوم، نتيجة للإصلاحات الدستورية والسياسية التي بوشرت بعد التصديق على دستور يوليو (تموز) 2011. ولعل هذا التحول هو ما يشرح كيف أن المغرب رغم وحشية أحداث «أكديم إزيك» ومسها بأمن وسلامة الدولة ومؤسساتها يقدم نموذجا في المحاكمة عن طريق تحويل محكمة عسكرية دائمة إلى محكمة مفتوحة أمام العموم بحضور ملاحظين محليين ودوليين.

فالمحاكمة، انطلقت قبل أيام، وهي تملك جميع الحجج والدلائل الشرعية والقانونية، ما دام الأمر يتعلق بمحكمة عسكرية دائمة أصبحت في وضعية محكمة خاصة مع الدستور الجديد، يعطيها قانونها لسنة 1956، المعدل في سنة 1971، صلاحية النظر في كل المخالفات المرتكبة من طرف العسكريين وأطر الجيش، ويمتد اختصاصها ليشمل المدنيين الذين ارتكبوا جرائم حيال عضو من القوات العمومية، وهي حالة المتهمين الموجودين أمامها اليوم.

من المصادفات المثيرة للغرابة، ألا ينتبه الكثير من المراقبين والملاحظين الدوليين لهذه الصورة المتمثلة في وجود محكمة عسكرية دائمة مفتوحة أمام العموم ووسائل الإعلام، محكمة في عالم عربي كثيرا ما تتهم دوله بأنها تغرد خارج سرب الديمقراطية بالمنظور الغربي، رغم أنه ليست هناك أي محكمة في دولة غربية، من سويسرا إلى ألمانيا وصولا إلى الولايات المتحدة، مفتوحة أمام الملاحظين والمراقبين، ولا أعرف ما إحساس المستشار السياسي للسفارة الأميركية في الرباط، وبعض ممثلي البرلمان الأوروبي وهم يتابعون هذه المحاكمة النموذج؟

ويبدو أن هذا الانفتاح، وتجريب هذا النموذج المستمد من الوثيقة الدستورية المغربية التي تنص في مادتها 127 على منع إنشاء المحاكم الاستثنائية مقابل إمكانية إحداث محاكم خاصة بدرجة كبيرة من ضمانات المحاكمة العادلة غير موجودة في تجارب المحاكم العسكرية الغربية، فاجآ انفصاليي الداخل المدعومين من طرف جبهة البوليساريو وبعض وسائل الإعلام الإسبانية، الشيء الذي جعلهم يسعون إلى تمويه حقائق هذه المحاكمة، ومحاولة تحويلها من قضية تتعلق بتكوين عصابات إجرامية واستعمال العنف ضد قوات الأمن المؤدي إلى القتل العمد لأحد عشر فردا من عناصرها، والتمثيل بجثث، إلى قضية سياسية وهمية ومزعومة.

فالوقائع، تظهر أن الأمر يتعلق في أحداث مخيم «أكديم إزيك» المعروضة أمام المحكمة العسكرية المغربية الدائمة كقضاء خاص، بجرائم مدعومة بمخطط الانفصاليين وبعض «العائدين الانفصاليين» من مخيمات تندوف (جنوب غربي الجزائر)، الذين انتهزوا فرصة وجود مخيم احتجاجي سلمي ذي طبيعة اجتماعية واقتصادية لتنفيذ مؤامرة، حيكت من طرف «البوليساريو» وداعميها للمس بأمن الدولة المغربية.

وتبين الكثير من التقارير الوطنية والدولية أن السلطات العمومية تعاملت بحسن نية، كما يقول المسؤولون الحكوميون أنفسهم، مع أحداث المخيم واعتبرتها اجتماعية، إلى أن فوجئت باحتجاز المحتجين في المخيم كرهائن، ومحاولة نقل الصراع من طرف العناصر الانفصالية إلى مدينة العيون، التي عرفت في نفس الفترة الزمنية ارتفاع درجة الجرائم قبل نصب المخيم بأسابيع، وهو تفسير لبداية بحث تلك العناصر عن خلق حالة من الرعب وانعدام الاستقرار.

وتبرز الوقائع المعروضة اليوم أمام المحكمة العسكرية الدائمة، أن الأمر يتعلق بجرائم مدبرة، وقع التخطيط لها في مرحلة ما قبل بناء المخيم، إذ تشير التقارير الأمنية إلى ظاهرة الإقبال الكبير على شراء الخيام والبلاستيك من مدينتي العيون والسمارة، وشراء الحبال والسكاكين، وقنينات الغاز الحمراء، وهي معروفة باختلافها عن قنينات الغاز الزرقاء، لكون الحمراء تشير تكنولوجيا إلى البحث عن أداة سهلة وشديدة الانفجار وإمكانية إعدادها في أماكن ومستودعات التهريب، إضافة إلى ظاهرة الإقبال، بشكل مثير للانتباه، على حشد السكاكين الحادة، ناهيك من ظاهرة السيارات رباعية الدفع وهوية راكبيها، في مدينة يحتج بعض من سكانها على قلة مواردهم الاقتصادية، ودخول الألبسة العسكرية والأموال المهربة من جزر الكناري. كما أن المعلومات المستخلصة من الوقائع تؤكد دخول أشخاص سبق أن هاجروا إلى جزر الكناري بطريقة غير شرعية وعادوا ليؤسسوا جمعية وهمية اسمها «التوافق والتنمية للمهاجرين» كانت تخطط لأعمال تخريبية.

وأكثر من ذلك، لوحظ في نفس الفترة الزمنية السابقة على أحداث مخيم «أكديم إزيك» ظاهرة توافد الإسبان بكثرة، بعد نصب المخيم، ودخولهم بصفتهم سائحين، ليتحولوا على حين غرة إلى صحافيين أو حقوقيين، لدرجة أن شخصا «مكسيكي» الجنسية، أصبح من مكونات ما سمي جهاز المراقبة داخل المخيم.

وبالعودة قليلا إلى الوراء، ونحن اليوم نتابع فصول المحاكمة، يتبين أن السلطات قبل الجرائم المرتكبة في المخيم كانت تقلل من حجم مخاطر انفصاليي الداخل رغم أن هذه الظاهرة كانت موجودة أمامنا، فلا أحد يعرف هل هناك سجلات أمنية لمسارات الانفصاليين، وكيف أن المدعو «النعمة أسفاري»، الذي تشير المعلومات الأولية إليه باعتباره أحد قياديي العملية العنفية ضد قوات الأمن في المخيم، انتقل من طالب بسيط أعد بحثا بمدرجات كلية الحقوق بمراكش تحت عنوان «دور المجتمع المدني في بناء الديمقراطية بالمغرب العربي» في السنة الدراسية 1994 - 1995، ولم يكمل دراسته في السلك الثالث، ليتحول في مدة وجيزة إلى أحد قيادات الانفصال في الداخل، مختلفا بذلك عن صديق له يوجد اليوم على رأس إدارة المبادرة الوطنية للتنمية البشرية في الصحراء، وهو برنامج تنموي أطلقته الدولة قبل سنوات.

إن الغاية من عرض هذين المسارين المتقابلين لأبناء المناطق الجنوبية، هي إظهار أن الصحراء فيها الوحدوي والانفصالي، والوحدويون يظلون أكثر من الانفصاليين، والمحاكمة التي تجري أطوارها اليوم بالرباط هي اختبار صعب للدولة، والقانون يحمل إشارات تأسيسية مستقبلية للداخل والخارج.

* رئيس المركز المغاربي للدراسات الأمنية وتحليل السياسات