العولمة بين المفهوم والواقع

TT

انبثق مفهوم العولمة في جو من الضبابية اكسبه واحدا من ابرز جدليات الفكر الانساني المعاصر فاستعمل في كتابات سياسية واقتصادية عديدة في العقد الاخير من القرن الماضي. فالعولمة مفهوم جديد ولكنه ذو جذور قديمة كما انه اسفر عن تطورات عديدة في شتى المجالات واصبح المفهوم ودلالاته وارهاصاته مادة خصبة للمفكرين والسياسيين والاعلاميين، فهو يستخدم تعبيرا عن محاولة لتشكيل رؤية جديدة ومختلفة نحو العالم، والنظر له ككل واحد، وجعله اطارا ممكنا للتفكير، مع وجود آليات وتقنيات لها قدرة التعامل مع حقائقه ومعطياته وعناصره، فيمكننا ان نصف به كل العمليات التي بها تكتسب العلاقات الاجتماعية نوعا من عدم الفصل وتلاشي المسافة، حيث تجري الحياة في العالم باسره اشبه بقرية واحدة صغيرة، ومن ثم فالعلاقات الاجتماعية التي لا تحصى اصبحت اكثر اتصالا واكثر تنظيما على اساس تزايد سرعة ومعدل تفاعل البشر وتأثرهم ببعضهم البعض. وفي الواقع يعبر مصطلح العولمة عن تطورين هامين هما: التحديث، والاعتماد المتبادل، ويرتكز مفهوم العولمة على التقدم الهائل في التكنولوجيا والمعلوماتية، بالاضافة الى الروابط المتزايدة على كافة الاصعدة على الساحة الدولية المعاصرة. فهي فلسفة تركيبية واختزالية واندماجية، تحاول ان تجعل العالم المتنوع والمتعدد والمتناقض في هوياته وثقافاته وقومياته ولغاته وجغرافياته، اطارا في قالب واحد.

كما ان العولمة جاءت لكي تفتح موجة من التغيرات تشمل العالم برمته، وتجعله مفتوحا على بعضه، ومتداخلا بين اطرافه، ومتقاربا بين اجزائه. هذه هي الصورة التي يراد لها ان تتشكل ذهنيا ومجازيا حول العالم، والتي تتصف بالاختزال الشديد، والتركيب المكثف، والتفاعل المرن، هذه الصورة الافتراضية تختلف عن صورة العالم في واقعه الموضوعي المحكوم بعناصر الجغرافيا في مساحته وتضاريسه الواسعة والمعقدة، وبقوانين الفيزياء من جهة المكان والزمان.

هذا الفهم للعولمة هو الذي حرض على هذا الاشتغال العالمي الواسع بهذه الظاهرة التي تتدخل فيها الثقافة بالاقتصاد وبالسياسة وبالاجتماع، وكذا بالتربية وقضايا الامن والدفاع وشؤون البيئة. فالعالم بأسره يشترك تقريبا في الاهتمام والاحتجاج بهذه القضية بأكثر من اتجاه في الفهم والنظر والنقد والتحليل. حتى اصبحت العولمة من اكثر المقولات تداولا وسجالا في هذا الوقت، الامر الذي يؤكد جدية هذه الظاهرة وخطورتها وما أفرزته من تباين حاد في اتجاهات التفكير والنظر وعكست ما هو مضاد للعولمة، وأكدت من زاوية اخرى ضرورة التداخل مع العالم والانفتاح عليه والتفاعل مع قضاياه وشؤونه. فلم يعد من الممكن للدول والمجتمعات ان تعزل نفسها عن العالم وموجات تأثيره العاتية، وليس هناك من باستطاعته ان يعيش بمفرده في هذا العالم، كما ان الانغلاق ليس حلا ولا خيارا، بل ومن غير الممكن تحققه في عالم شديد الترابط والتداخل كعالمنا الذي نعيش فيه.