صفر ومعادلات تتجول بين حضارات الشعوب

TT

تفرض طرق التشكيل الرقمي نوعا من الاتجاه الرياضي بين انماط الرياضيات المعروفة ودرجة ما من درجات التطور، بالنظر ايضا الى عوامل توفر المعلومات وضرورات استعمالها ودرجة تنظيم مستعمليها من كهان وفلاسفة وعلماء، فاتجه المصريون الى حساب الكسور وأمعنوا فيه قليلا، بينما اتجه البابليون المتطورون رياضيا الى حساب الارقام الصحيحة، لأنهم اعتمدوا على نظام رقمي يرتكز على الرقم «ستين».

المعادلات البابلية، من عهد حمورابي تدل على نضج في التفكير الرياضي وعلى ان الافكار الحسابية صارت افكارا عقلية لا تنحصر في حساب الارباح واداء الديون، وتسمح الادوات الرقمية المتوفرة بتحقيقها، بل يسمح بناء المعادلات بمحاولة التفكير فيها ومحاولة ابداء الحل والتعرض للخطأ الذي يصححها والصواب الذي يـؤكدها. وقادتهم الارقام الصحيحة مباشرة من العهد الفرعوني الى الحواضر الاغريقية لأنها قادتهم الى الاهتمام بالهندسة الفراغية وكثيرة الزوائد. ولا يفسر صعوبة المعادلات عندهم اذا اخدنا لذلك مثلا معادلة حجم الهرم التي تسهل عند المصريين لعيوب في نظام البابليين الرقمي او لأن الهرم كان اكثر ضرورة للفراعنة والصق بعقائدهم كما يتبادر لكثير من الباحثين، ولكن لأن البابليين المطلعين على المجهودات الفرعونية تحروا الدقة في حساباتهم، لا سيما انهم ورثة لحضارة السومريين، وأمعنوا في تعمق الوسائل الموصلة الى حل مأمون، وهذه هي العلة التي جعلت نظرياتهم الهندسية خالية من البراهين التي سيخترعها الاغريق بعد ذلك لتبسيط المعادلات ببرهنتها كما فعل اقليدس في «كتاب العناصر».

ولم يعرف الفراعنة «الصفر» ولا البابليون ولا الاغريق، ولم يعرفوا كذلك النظام العشري، وسار التاريخ على غير ما نتوقع، فلو لم يترك رياضيو الاغريق الكبار امثال، اقليدس، مؤلف كتاب العناصر الذي ظهرت منه 1700 طبعة وتناقلته ايادي اجيال بلغت الستين وظهرت فيه مفاهيم الحركة في تعريف الاشكال الهندسية، وامثال ابولونيوس، الذي حفظت التراجم العربية كثيرا من افكاره، وارخميدس «المطبوع على البحث الطبيعي وتطبيق الرياضيات على الفيزياء والتقنية»، لقلنا انما هو الصفر والنظام العشري للأرقام الذي كان يعوزهم، وعلينا فقط ان ننظر الى الاهرامات العتيدة التي ما زالت قائمة ونعرف ان الفراعنة بنوها بمعادلات ناقصة تحذف من طياتها قمة الهرم لأن مفهوم الزاوية لم يكن معروفا لهم، ورغم ذلك فهي اعجوبة من اعاجيب الرياضيات، وعلينا ان ننظر الى اعمال الفيثاغوريين الذين تأملوا طبائع الارقام من دون حاجة الى رقم جديد تكشف عن وجوده انظمة تعرفها شعوب دون شعوب، فميزوا بين العدد الزوجي والفردي واعتبروا الوحدة الواحدة ليست رقما وانما مصدراً لكل الارقام، بادئة باثنين، وسعوا الى تطبيق فكرة «الكمال الاغريقية» التي لا يخلو منها نشاط في الفن او التفكير على الارقام فهي تكون كاملة اذا تطابقت مع الارقام المكونة لها في حالة الجمع ثم تقبل القسمة على كل فرد منها، واختلقوا مصطلح الارقام المتصادقة وضربوا لها الامثلة حيث استطاع في العصور الحديثة الرياضي كريستيان اويلر استخراج ستين زوجا من هذه الارقام، مستفيدا من حسنات النظام العشري التي نحاول ان نثبت بعضها وننفي بعضها. فلم يكن التاريخ في حاجة الى الصفر او في حاجة الى النظام العشري لانهما من ضرورات التفكير الرياضي او الفلسفي او من ضرورات البرهنة والتجريب وإلا لانقضى العصر الاغريقي ومعه العصر العربي ـ بوصفه العصر الذي اعقبه واعتمده على روحه الفلسفية واستوعب اعماله وجنح بها الى تطوير علم جديد هو حساب المثلثات ـ من دون انجازات كبيرة تعجل بظهور رياضيي العصور الحديثة. وعلينا ان نعرف ان النظام العشري الذي يعرف ـ عند بعض المؤرخين ـ بالنظام البرهمي والذي طوره الهنود في حوالي 300ق.م وابرزوا بموجبه الصفر كحقيقة رياضية وعقلية لم يساعدهم لقلة التراكم الرياضي والمعرفي في زمنهم في معرفة مثلا الجذر التربيعي لـ 2 وان كانوا اقتربوا من تقديره، ولا ساعدهم في كشف رقم الدائرة بأفضل مما نجده عند الفراعنة بوصفهم اول من انتج افكارا رياضية معروفة في الادارة والاقتصاد وفي البناء وفن العمارة، وان كانت له من حسنات فهي حسنات الدقة والسهولة اللتين لا تفعلان فعلهما من دون توفر روح فلسفية ومن دون تراكم علمي، فأهل ذلك رياضيي العرب الذين كانوا اول من صرخوا في آذان التاريخ بأن رقم الدائرة خيالي وحققوا نسبته التي تتواتر بعد الفاصلة من دون توقف والى ما لا نهاية، مستعينين بروح المعرفة التجريدية والتي بثها مفكرو الاغريق التي كانت اعظم اثرا من انظمة الارقام في تطور الرياضيات. ولا شك ان العصر الاوروبي هو عصر انفجار الرياضيات وعصر نمو الحيل الرياضية وتنوعها وعصر اختراع المصطلحات والاشكال ووصف كثير من الظواهر الطبيعية رياضيا، ولم يكن للصفر او النظام العشري ان يقوم بهذا من دون معاونة عوامل اخرى اهمها التقاء الشعوب ابان الامبراطوريات الكبيرة والتقاء المعرفة المشتتة بين تجارب الامم.