نزعة متنامية نحو الاستثمار والإصلاح الاقتصادي في روسيا

TT

كان الانحسار والانكماش في الاقتصاد الاميركي يلوحان في الافق منذ مطلع عام 2001 بعد فترة نمو وانتعاش عاشتها اميركا لفترة 10 سنوات قضت معظمها في كنف كلينتون واتت احداث 11 سبتمبر (ايلول) فضربت العصب الشوكي للاقتصاد الاميركي فشلته جزئيا، وتعمق الانكماش في اعلان عن ولوج اقتصاديات العمالقة في لجج الكساد.

العولمة لم تعوم مراكز الاقتصاد العالمي، والاحداث الاخيرة انبأتنا بان المركزية والتبعية تعمقت جذورها وما حصل ان العالم الاقتصادي استبدل حلته القديمة بثوب العولمة المطرز بخيوط ذهبية، والمحاك على طريقة الموضة الحديثة بتقصير القماش وتوفيره، فها هي الارجنتين والدين بها يبلغ 142 مليار دولار تعين خلال اسبوعين وتعفي، خمسة رؤساء، مشهرة افلاسها.

لقد بات ارتباط المحيط بالمركز سمة كونية للاقتصاد العالمي رغم التحالفات والاندماجات التي شهدناها في العقد الاخير من القرن المنصرم واصبح المثل القديم القائل بانه حين تصاب اميركا بالزكام وتمرض اوروبا اوسع فضاء ليشمل الزكام اقتصاديات العالم كلها فيطال دولا من العالم الثالث جهاز مناعتها الاقتصادي لا يقوى على تحمل مثل هذه الامراض والنكسات. فالعولمة بحلتها تظهر كمعادلة معالمها: اقتصاد الولايات المتحدة الاميركية والقوة الشرائية لمستهلكيها ومجاهيلها الاثار السلبية وتداعياتها من ارهاب وتبعية وهتك حدود التماس الثقافية بين الشعوب.

ورغم كل امواج الانحسار والانكماش الاقتصادي العالمي التي تلطم شاطئ الاقتصاد الروسي الا ان كواسر الامواج التي يشهدها النهج البوتيني والانعطافات القوية التي لمسناها في المشهد الروسي لحلف روسيا ليقيها من برد الانكماش. وبدل ان يستعمل الدب الروسي مخالبه في ردود افعاله لبس ثوب الثعالب لينجو بدهائه من عاديات التغيرات وعواصفها، ويفتن بمكره ساسة واباطرة الرأسمالية الغربية ليجد الدعم الذي يشتهي، ويوقف النزيف الداخلي في الشريان الاقتصادي الذي كانت تعمل به يد النهب ونخر الفساد.

ان انتهاج روسيا للخصخصة ومحاربة الفساد والتنازل عن الكبرياء الاجوف بالاستعانة بالخبرة الغربية لشركات وقطاعات كبيرة كالنفط قد ضخ الدم في شريان الصناعة النفطية لتأخذ مداها وبدأت احابيل التوفير في التكلفة، فبنى بوتين مرفق بريمورسك شمال غرب روسيا في مدينة سانت بطرسبورج قرب فنلندا خلال زمن قياسي 18 شهرا لتوفر على روسيا ملياري دولار رسوم عبور يدفعها الروس لليتوانيا واستونيا ولاتفيا. عدل ساسة الروس عن شعار مركزية السلطة العمياء بالسعي لتحقيق حلم السيطرة على منابع الذهب الاسود وعلى منافذه التصديرية وضمان عبور نفط اسيا الوسطى عبر بلاده وهذا ما لاحظناه اخيرا في تدشين الانبوب الشريان الذي يصل حقل تنغيز في كازاخستان بالبحر الاسود. وكما قد بدأ تنامي الدور الفاعل لروسيا على الساحة النفطية، فرضت النزعة البوتينية المتنامية والمستندة الى ضرورة الاستثمار والاصلاح الاقتصادي لبناء اقتصاد حديث بعد تجريب كل الاساليب الملتوية خلال عقد من الزمان من عدم تسديد الدين وخفض قيمة العملة وحتى العلاج بالصدمات على السياسة الخارجية الروسية اتجاهات جديدة، فلم تعد تهتم بالتورط بالقضايا الجيوسياسية بلا مقابل وما لم تخدم او توظف في خدمة القضايا الجيواقتصادية وحتى ان اضطرها ذلك للتخلي والتجاوز عما كان ارتكابه في السابق يعد من الموبقات في قاموس رعيلها الاول، فها هو بوتين يعلق ببساطة على انسحاب الاميركان من معاهدة الدفاع المضاد للصواريخ المعروفة باسم (اي . بي ام) الموقعة في عام 1972 والمرتبط بها اكثر من عشرين معاهدة اخرى منها معاهدة حظر انتشار الاسلحة النووية ومعاهدة حظر وضع الاسلحة النووية في الفضاء وفي اعماق البحار وغيرها من المعاهدات الهادفة الى لجم سباق التسلح والسيطرة على الفضاء بقوله «انه قرار خاطئ ولا يشكل خطرا على الامن القومي الروسي» ما فعله غورباتشوف وبروليتاريته هي انها تركت الولايات المتحدة الاميركية وحيدة بدون عدو فلم يعد لفرعون من هامان، لذلك لم تعد تبال السياسة الاميركية في مسألة صنع اعداء جدد بدون كبح لجماح النزعة التكبرية وتضخم الذات.

ولكن هل سيتمكن الروس من تحقيق ذلك والحرب مستعرة في الجنوب، وكيف سيتمكن الروس من تضميد جرحه النازف في جنوبه؟ في الشيشان القوقازية؟ واطفاء نار الحقد قبل الحرب، فبدونه ستبقى الايديولوجية البوتينية مجرد نسمات لا ترقى الى ان تكون رياح التغيير.