الغرور يفقد القيادات السياسية توازنها.. النظام العراقي نموذجا

TT

ينبري المحللون السياسيون وينشغلون بإجراء التحليلات ووضع التقييمات لكل تصريح يصدر عن النظام العراقي. وتذهب التفسيرات شتى المذاهب ويحار المراقبون في مغزى تلك التصريحات، وقلما يتفقون على الأسباب والدوافع، لماذا يقول هذا النظام ما يقوله؟ ولماذا يصرح بما صرح به؟ فغالباً ما تبدو هذه التصريحات غريبة ومجافية للحصافة والتعقل، بل ومجافية لكل ما هو متعارف عليه من التبصر والتحسب الذي يجب أن تتسم به التصريحات السياسية، ومن الحرص على مصير شعوبها وبلدانها.

التصريحات السياسية للمسؤولين في النظام العراقي، تبدو في كثير من الحالات محاولات سافرة لاستعداء القوى العالمية لضرب العراق وتجريده من كل مقومات الحياة.

فعندما تتلبّد الأجواء العالمية وتلتهب، ينبري عدي صدام بنشر خريطة العراق وبضمنها دولة الكويت كجزء من العراق في جريدته الناطقة باسم العائلة الحاكمة. وعندما ترتفع أصوات الصقور في البيت الأبيض لضرب العراق كمرحلة ثانية، يرتفع صوت طارق عزيز مصرحاً بأن الكويت جزء من العراق. وعندما تتحرك حاملات الطائرات الأميركية والبريطانية والترسانة العسكرية الفائقة التكنولوجيا باتجاه الخليج، يتطوع رأس النظام لكي يوجه (النصائح) للعملاق الأميركي الهائج الذي طعن في كرامته الوطنية.

يقوم بذلك بكل حماقة، بعيداً عن اللياقة السياسية واللباقة الدبلوماسية. كيف يمكن تفسير كل هذه التصريحات والتصرفات؟ وما هو الهدف منها وعندما يزن المسؤولون العرب والأجانب كل كلمة يقولونها، وكل تصريح يدلون به، بميزان دقيق، حتى لا تؤول الكلمات والمعاني، يترك النظام التلميح ويعمد إلى التصريح في تأييده الضمني لما حدث في 9/11، وكأنه يقول إن ما حدث كان يجب أن يحدث، وأنه لو لم يقم به من قام به لتولى هو ذلك. فهل فقد النظام الصواب وفقد معه القدرة على وزن الأمور؟! ولو تتبعنا تصريحات وتصرفات رأس النظام ورموزه، خلال العقدين الأخيرين، لوجدنا أن ما يحركهم هو مرض لفت الانظار، خصوصاً حين تحتجب عنهم وسائل الإعلام. فعندما قامت الضجة الإعلامية حول الثورة الإيرانية، استشاط النظام العراقي غيظاً من شدة اهتمام العالم بإيران الجديدة، كما ازدادت غيرته من زيادة استحواذ إيران على اهتمام الإعلام العالمي والإعلام الأميركي بشكل خاص. وهو الذي كان يتطلع إلى أن يحظى بالاهتمام الأميركي الأكبر، بعد سقوط الشاه. وزيادة في شد الانتباه العالمي والأميركي واعتماداً على حسابات خاطئة حول ضعف الدولة الإيرانية، شن الحرب الشاملة على إيران وأعلن أن (إيران على طاولة التشريح)، كما صرح بذلك رأس النظام شخصياً بعد أسبوع فقط من شنه تلك الحرب.

وأصبح النظام خلال فترة الحرب العراقية ـ الإيرانية، التي استمرت ثماني سنوات، طفل الغرب المدلل باعتباره الوحيد الذي يستطيع وقف وإخماد الصحوة الدينية الإسلامية ويشكل سداً أمام تقدمها.

وانتهت الحرب العراقية ـ الإيرانية، وشعر النظام مرة أخرى بأنه يقف في الظل، وأن الأضواء قد انحسرت عنه، وتحرك المرض مرة أخرى، فغزا العراق الكويت، ولم تكن قضية الكويت مطروحة لا على مستوى سياسة الدولة العراقية ولا على مستوى مبادئ حزب البعث. وكان احتلال الكويت ضربة هائلة انتشى بعدها النظام، فقد أقامت العالم سياسياً وإعلامياً ولم تقعده. واستمر رئيس النظام طيلة ستة أشهر يتمتع منتشياً بالأضواء العالمية وهي ترصد تحركاته وسكناته، وكانت الجرعات الإعلامية هذه المرة أكبر بكثير من الجرعات الخاصة بالحرب العراقية ـ الإيرانية، التي هي في أفضل حالاتها حرب إقليمية بين جارين مسلمين ولا تشكل خطراً كبيراً على الأمن الدولي مثل عملية احتلال الكويت التي تفتح الباب على مصراعيه أمام انفتاح شهية الكثير من الدول وتشجعها على ابتلاع جيرانها الصغار، وبذلك يتحول العالم إلى غابة يبتلع فيها الكبير الصغير.

وبعد إخراج العراق من الكويت، وعلى الرغم من العار الذي ألحقه النظام بالعراق وسمعة العراق، فقد ظل يسعى بين فترة وأخرى إلى استجلاب الأضواء مجدداً بعد أن تم وضعه في قفص الحصار، ولم يعد يشكل أي خطر استراتيجي حقيقي، لكن النظام كان يسعى إلى الأضواء من خلال مقاومة برنامج النفط مقابل الغذاء مرة، أو من خلال مقاومة فرق التفتيش على أسلحة الدمار الشامل مرة أخرى، أو من خلال المتاجرة بآثار الحصار على أطفال العراق وشعب العراق مرة ثالثة، لكن كل ذلك لا يشكل فيضاً إعلامياً كبيراً يروي عطش النظام، لذلك فقد جاءت أحداث 9/11 لتزيد من تطلعه إلى محاولة إشباع عطشه الذي لا يرتوي إلا بالأضواء.

عادة ما يدرس المراقبون الدوافع الاستراتيجية لتحركات وتصريحات قادة الدول، لكن ذلك لا ينطبق على العراق. ولست أدري لماذا لا نأخذ بالحسبان العامل الذاتي في اتخاذ القرارات السياسية، ونبحث دائماً عن الدوافع والعوامل الاستراتيجية. فهل كل ما قام به القادة السياسيون في التاريخ مبني على حسابات استراتيجية؟ بل ان موضوع الحسابات الاستراتيجية هو موضوع حديث نسبياً، فهل ما قام به القيصر الروماني نيرون عندما أحرق روما كان مبنياً على حسابات استراتيجية؟ وهل غزو نابليون لروسيا عام 1912 وهو القائد العسكري العبقري، كان مبنياً على حسابات استراتيجية؟ وهل ضرب اليابان للأسطول الأميركي في بول هاربر، كان مبنياً على حسابات استراتيجية؟ وهل غزو العراق للكويت كان مبنياً على حسابات استراتيجية؟

انها العنجهية، والغرور الذي يفقد التوازن!