تستطيع أميركا ترسيخ موقعها كمركز للإشعاع الحضاري ولكن بطريقة أخرى

TT

تحكى رواية «قلب الظلام» لجوزيف كونراد (1857 ـ 1924) قصة رجل أبيض (المستر كورتز)، أُرسل من أوروبا إلى الكونغو البلجيكي (سابقا) بقلب أفريقيا السوداء، لإنشاء محطة هناك. وحين يطيب له المقام، بعيدا عن أعين العالم (المتحضر)، يقع شيئا فشيئا تحت سيطرة الجانب المظلم من نفسه، فيتحول من حامل لمشعل «الحضارة» إلى ممارس لطقوس محلية دموية، فترسل الحكومة البلجيكية، في نهاية المطاف، بعثة خاصة لإنقاذه مما وصل إليه.

تنطبق هذه الثيمة على الوضع الحالى لأميركا في استسهالها استخدام القوة.

لا أحد يشكك في القدرات الاقتصادية والعسكرية الهائلة للولايات المتحدة، وليس هناك من لديه أية أوهام عن طول يدها. فهي تدير حروبها في السر والعلن، فتحارب بنفسها أحيانا وبالوكالة في أغلب الأحيان، وتتنوع أساليبها من التلويح بجزرة المال والمساعدات الاقتصادية، إلى التهديد بعصا العقوبات واستخدام الأنياب الذرية لـ«عض» الحكومات الخارجة عن بيت الطاعة الأميركي.

ومع كل ذلك، لم تهنأ الولايات المتحدة بانتصاراتها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بل تكررت خيباتها، ابتداء من حرب فيتنام مرورا بحرب الخليج الثانية، وانتهاء بالحرب الحالية على أفغانستان. فحين بدا أنها كسبت الجولة الأولى من حربها المعلنة ضد «الإرهاب»، انتقص من قيمة هذا النصر فشلها في النيل من المتهم الرئيسي وكبار معاونيه وبقاء الملاّ عمر ـ الذي لم يترك رسما له ولا صورة تسهّل مهمة صائدي الجوائز ـ حراً طليقاً. ومع أن الحروب تنتهي، عادة، بطرف منتصر وآخر مهزوم، إلا أن الولايات المتحدة ابتليت بمهزومين ينازعونها نتيجة انتصارها، ويفسدون عليها بهجة الاحتفال.

لجوء الولايات المتحدة إلى استخدام القوة، بمناسبة وبدون مناسبة، أكسبها أعداء جددا وأوشك أن يُفقدها أقرب أصدقائها وحلفائها. وربما يفسر ذلك سبب تعاطف الكثيرين من أبناء الشعوب الفقيرة، خاصة في ما اصبح يُعرف بجنوب العالم، مع كل من تحداها. إن كف الولايات المتحدة يدها عن استخدام «النبّوت» في تعاملها مع مخالفي رأيها على سطح هذا الكوكب الذي يشاركها فيه آخرون، ربما سيكون سببا في أن يعقد لها لواء الزعامة المطلقة التي تعشقها، وترسيخ سمعتها كمركز للإشعاع الحضاري ورافعة لمشعله الذي يجسده تمثال الحرية بنيويورك، بدلا من لعب دور امبراطورية الشر الجديدة ومن ثمّ البحث عمن ينقذها من نفسها، كما فعلت البعثة مع «المستر كورتز» في رواية «قلب الظلام».