المناقض للحداثة ليس الإسلام بالتأكيد بل المسلمون

TT

يضحك على ذقنه من يرى ان الدين نقيض الحداثة، لأنه بذلك انما يحكم على الدين بالخمول والجمود وهو يعلم انه شأن إلهي يتخطى الزمان والمكان، بينما يحكم على الحداثة بالحركة والصيرورة والتطور الدائم حتى وهو يعرف أنها نتاج العقل فحسب.

ان القول بأزلية الدين وكونيته يبقى قولا غارقا في اتون النفاق والخداع والمخاتلة اذا لم يقترن باعتقاد راسخ يكون الدين فيه صالحا لكل زمان ومكان، ويكون بالتالي أكمل وامثل منهاج يمكن ان يتفتق عنه المستقبل. ان الدين بهذا المنظور السليم هو الحداثة عينها... فكيف ذلك؟

لننظر الى احوال الاقوام الذين نزلت فيهم الرسالات وظهرت النبوءات وانبثق من صفوفهم الانبياء والرسل. لقد كانت تلك الاحوال خليطا من التيه والضلال والحيرة ومن الكفر والشرك والالحاد والغوغائية، وكانت بالتالي جعجعة من الوحشية ومن التطاحن والظلم والبغي والفسوق... وكان ينتج عن كل ذلك انواع شتى من الجهل والتلف والعمى العقلي... فكانت الرسالات والنبوءات بمثابة منعطفات حاسمة، وفرص لا غنى عنها لتحقيق نقلات نوعية وطفرات شكلت حقا ضربا من الحداثة، بل كانت سببا في تطورات جذرية طرأت على المجتمعات المعنية ومكنتها من مناهج ووسائل لم تكن ببالها من قبل، نظمت علاقتها، وارست اسس نمائها العقلي والمادي والمعنوي، وحولتها الى كيانات اكثر استقرارا ومسالمة واكثر انسانية تعرف ما تريده وتعرف كيف تنحو إليه من غير اضرار بالنفس او بالغير.

نعم، لقد كان الدين من خلال رسالاته ونبوءاته المتعاقبة على مر الحقب القديمة مفتاحا لابواب الحداثة في كل مرة كان يظهر فيها نبي او رسول، وكان هذا يضع في ما بين أيدي الناس وسائل فهم وعمل جديدة وحاسمة تقلب ظروف عيشهم رأسا على عقب وتبدل الظلمات الغامرة لما حولهم الى نور يحفل بالأمن والطمأنينة والأمل ويحض على تحقيق النفع للنفس وللغير في اطار من الاخلاق النبيلة والمبادئ والمثل الرفيعة.

فما دليل القائلين بمناقضة الدين للحداثة؟ ثم ما الذي يعنيه هؤلاء بلفظ «الدين» وهم يطلقون حكمهم هذا على عواهنه؟ هل يعنون الاسلام في تمامه وكماله، منذ نبوءة آدم عليه السلام الى خاتم الرسالات والنبوءات، أم انهم يريدون بقولهم ذلك مسلمي هذا العصر الرديء المتخاذلين والمتهالكين والعاملين على وصم الاسلام بكل ما يجوز وصفهم هم انفسهم به من التخلف والخمول والدونية؟

ان الذي يصح ان نقول انه مناقض للحداثة ليس الاسلام بكل تأكيد، بل المسلمون وميلهم الى تجميد العقل وتعطيل الاجتهاد، والى تحنيط النص المنزل وتحويله الى شأن غنوصي، وفصله عن العلم وشعبه ومداركه.

لقد اكتشف علماء الامس كروية الارض، واعتقدوا انهم بذلك قد حققوا امرا حداثيا، فوجدوا ان كتاب الله (الدين) سبقهم الى ذلك ونص عليه منذ قرون طويلة، واكتشفوا تكور الكون ومكوناته والاجسام السابحة فيه، فأقروا بعد ذلك رغم انوفهم بسبق كتاب الله الى كل هذه الحقائق بلا جدال.

واكتشف علماء العصر الحالي تفاصيل تكون الأجنة في الرحم، فوجدوا هم الآخرون، ان كتاب الله قد فصل ذلك التكوين بكل دقائقه وتفاصيله قبل اكتشافهم اياه بمئات السنين.

وبلغ الى علم علماء اليوم بأن الكون في حالة توسع مطرد لن تلبث ان تصل الى مداها ليعود بعد ذلك الى حالة من التراجع والى الضيق والى الالتقاء والاصطدام والاندغام من جديد... وكل هذه المراحل قد فصلها كتاب الله ودل عليها بدقة متناهية ووصفها بكل جزئياتها بدءا بالفتق الاول وانتهاء بظواهر الساعة واشراطها الكونية والتي تأخذ فيها المجرات والنجوم والكواكب في الاصطدام والتداخل والتلاقي في اجل مسمى.

كل هذه المظاهر والادلة على السبق الديني على كل علوم الانسان ومعارفه ومداركه انما تؤكد بما لا يدع مجالا للشك بأن الدين وما جاء به من علم ومعلومات ومعطيات وحقائق لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، انما هو الحداثة عينها، طال الزمن ام قصر... انما هو السبق كله والافحام كله... وهذا ما ينبغي ان نعتقده حقا، وان نعمل كل ما في وسعنا كي نكون في مستوى حمل رسالته وتبليغها الى الغير... وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.