كيسنجر يستخف بالعقل العربي

TT

نشرت صحيفة «الشرق الأوسط» في عددها يوم الأحد (8034) بتاريخ 2000/11/26 في صفحة الرأي مقالا مترجما لوزير الخارجية الأميركية الأسبق هنري كيسنجر. فالمقال من أوله إلى آخره يستخف بالعقل العربي ويهدف إلى اتباع سياسة العصا والجزرة تارة وسياسة الخطوة خطوة تارة أخرى تلك التي اتبعها وابتدعها إبان دبلوماسيته المكوكية لفك الاشتباك بين إسرائيل من جهة ومصر وسورية من جهة أخرى بعد حرب 1973، كي يجني نتائج تصب في صالح إسرائيل أولا وأخيرا وتسلب العرب ثمار النصر الأول في تاريخ الصراع العربي ـ الإسرائيلي. الذي كانت نتائجه السياسية لا توازي ما تحقق وذلك لأن نهاية تلك الحرب لم تكلل بالنصر النهائي بل ألغت الوهم الإسرائيلي «أنها لن تهزم أبداً»، ورفعت من معنويات العرب وأعادت لهم الثقة بأنفسهم، وأنهم بإمكانهم عمل الشيء الكثير لو صلحت النيات واتحدوا اقتصادياً وتبنّوا نظرة استراتيجية واحدة.. المهم أنه باستعراض بعض فقرات ما كتبه العجوز فكراً وسناً كيسنجر نرى التحيز الواضح وتبني النظرة الصهيونية المتغطرسة ضاربا بعرض الحائط حتى ما تبذله الإدارة الأميريكة من جهود وان كانت لن ترقى إلى ما هو مؤمل منها بصفتها القطب الأوحد والراعي الرئيسي لما يسمى بعملية السلام، فكيف لو كانت الإدارة الأميركية تقف إلى جانب الحق العربي ولو بالدعوة الصادقة والصريحة إلى تطبيق القرارات الدولية عبر الشرعية الدولية بقراريها 242 و338... وهذا حلم بل خيال، ماذا سيكون كيسنجر هل مهاجما لسياسة إدارته (أميركا) أم سيؤلب العالم ضدها من أجل سواد، آسف، زرق عيون أبناء العم سام.. فهو يدعو إلى اتفاقية سلام على غرار اتفاقية سيناء عام 1975 وفحواها سياسة اتفاقية تتبعها اتفاقية خطوة خطوة.. وهو يعلم ان مساحة الأرض الموعود اعادتها للفلسطينيين كما قال أمتار معدودة لا تحتمل التجزئة وفعلا كانت اتفاقية أوسلو وما تبعها من اتفاقيات لم تفض حتى الآن إلا الى مناطق أ، ب، ج. ومدن معزولة محاطة بمستوطنات وطرق التفافية و.... وهذا ما يمكن إسرائيل الآن من فرض سيطرتها على المدن والقرى ومداخلها ومخارجها.

كما أنه في جانب آخر يقول: إن إسرائيل باعتقاده انسحبت من جنوب لبنان كرما منها وليس هزيمة، وكما نعلم والعالم أجمع يعلم هذا فحتى إسرائيل نفسها أقرت بخسارتها وأعلنت أكثر من مرة أنها ستخرج من المستنقع اللبناني.. واعود به مع الذاكرة ومقارنة خروج أميركا من فيتنام وخروج اسرائيل من جنوب لبنان، هل يصح أن نسمي خروج أميركا من فيتنام كرما أم هروبا... وبذلك كيف تسنى لخبير الدبلوماسية العتيق أن يسمي انسحاب اسرائيل من لبنان كرما اسرائيليا.

وفي موضع آخر نجده يسدي نصيحة للإدارة المقبلة في بلاده وهي عدم الخوض في التفاصيل وعدم التدخل في السياسة الداخلية لإسرائيل لأن هذا الأسلوب اضعف الدور الأميركي. وهو ينسى أو يتناسى أن اللوبي اليهودي بأميركا، وهو أحد أقطابه، أكثر نفوذا في الحياة السياسية الأميركية عبر الإعلام وأسواق الأموال والبنوك حتى بلغ ذروته عند ترشيح نائب المرشح الديمقراطي للرئاسة ليبرمان ولأول مرة في تاريخ أميركا السياسي يترشح يهودي لمنصب نائب الرئيس ولربما رشح مستقبلا لمنصب الرئيس أخذا بمبدأ التدرج. فهل يستكثر على دولة بحجم بلاده أن تؤثر في مجرى انتخابات رئاسة الوزراء والكنيست في اسرائيل وجل مداخيلها واقتصادها يموّل من قبل دافع الضرائب الأميركي، ويبدي مآخذه على تلك السياسة، ويقبل بها من جانب آخر ان هي مورست لصالح اسرائيل في قلب أميركا؟ هذا برأيي تحيز ممجوج وممقوت. فكما هو معلوم أن صناع القرار في أميركا آخذون بنظرة أحادية مفرطة في التحيز لخدمة اسرائيل وممارسة الضغوط والابتزاز لأركان الإدارة الأميركية، ومن ثم يتخذ القرار الأميركي متماشيا مع النظرة اليهودية واركان اللوبي الصهيوني.

أخيرا يكفي ما حل بالمنطقة من جراء أول اطلالة لكيسنجر التي افرغت سمومها وبثت الفرقة والتشرذم وفرضت مبدأه القائل بالعودة إلى حدود 1967 وضمان تفوق إسرائيل النوعي وتجزئة الحلول.. أرى أن ذلك زمن ولى ولن يعود.