الدكتور جليل العطية وشيء عن حماسة ابن فارس

TT

لقد عود الدكتور العطية قراءه على مقالات أنيقة جادة، بأسلوب سلس محبب، وهذا مما يدفعني الى متابعة ما يكتب مقالاً او كتاباً كان.

ولما كنت قد شغلت عن مطالعة صحف الأسبوع الماضي، فقد فاتني مقال للدكتور العطية عن كتاب صدر بتحقيقي في عام 1995 عن عالم الكتب في بيروت، بعد ان كنت قد انهيت تحقيقه في اواخر السبعينات، وتأخر اصداره لظروف لبنان آنذاك. غير ان اطلاعي على مقال الباحث الفاضل بعد صدوره بأيام قليلة لا يمنعني من مماحكة الدكتور العطية في ما رآه، فهو يحاور كتاباً بعد صدوره بستة أعوام.

وقد رأيت الكاتب العطية في مقاله المنشور في جريدة «الشرق الأوسط» الصادرة بتاريخ 2 فبراير (شباط) الحالي يأخذ عليّ توثيقي نسبة الكتاب لابن فارس، المتوفى في سنة 395 للهجرة، ذاكراً انني اعتمدت في توثيق تلك النسبة على هذه الحجج:

ـ ان المرزوقي (ت سنة 431 للهجرة) نقل عنه كثيراً من التفسير اللغوي للألفاظ.

ـ ان المخطوطة تلتزم بذكر (جلّ وعزّ) او (جلّ ثناؤه) بعد ذكر لفظ الجلالة، وهذا ما ألزم ابن فارس به نفسه في كتبه.

ـ معاني الألفاظ المفسرة مأخوذة نصاً من كتب ابن فارس في الغالب الأعم.

ـ الايجاز الذي نلاحظه سمة لصيقة بأسلوب ابن فارس.

ثم يناقش الأستاذ العطية هذه الحجج، فلا يراها كافية لاثبات نسبة الكتاب الى ابن فارس. ويضع اعتراضاته في جملة أمور هي:

ـ (لو ان الكتاب تضمن ازاء الكلمات اللغوية عبارة: «كما قلت في كتابي الفلاني» لحسم الامر).

ـ (وجود تشابه في طائفة من الكلمات مع ما أورده المرزوقي لا تعني أي شيء فالذي يدرس معجمات اللغة يجد فيها الكثير من التشابه، لأن منابع اللغة العربية واحدة ومشتركة. كما ان أسلوب هذا الشرح يختلف عن كتب ابن فارس الأخرى).

ويقول الدكتور العطية «اما افتراض المحقق بأن مخطوطة الكتاب وحيدة فريدة فلا أساس له من الصحة، فلقد وجدت في أوراقي الشخصية ذكر مخطوطتين أخريين»، ثم يذكرهما ومكان وجودهما. وينتقل الى عبارة جاءت في المخطوطة (وروى ابن أبي الصقر) ذاهباً الى ان المقصود هنا احد عالمين وكلاهما جاء في عصر بعد عصر ابن فارس.

هذا مجمل ما كتبه الباحث الفاضل، ولنا عليه تعقيب مختصر بحسب ما يسمح به المجال:

1 ـ الحجج التي ذكرها لا تضم جميع الحجج المسوقة لتوثيق الكتاب، فهناك مستندات أخرى أذكر منها:

أ ـ توثيق ياقوت الحموي في معجم الأدباء (4/84) وابن النديم في الفهرست (ص 80) والسيوطي في طبقات المفسرين (ص 4) الذين ذكرا أن ابن فارس قد ألف كتاب الحماسة. (وقد ذكرنا هذا في مقدمتنا للكتاب ص 26).

ب ـ ان ابن فارس نفسه قد استشهد به في رسالته النقدية التي أرسلها الى أبي عمرو بن محمد بن سعيد الكاتب، على ما يروي الثعالبي في يتيمة الدهر (3/400) وياقوت في معجم الأدباء (4/85).

2 ـ أما عن نقل المرزوقي لنصوص من هذا الكتاب فليس المنقول شيئاً يسيراً بحيث لا تكون له دلالة على توثيق الكتاب، واليك هذه النماذج:

* جاء في المخطوط:

فوارس لا يملّون المنايا اذا دارت رحى الحرب الزبونِ تقول المخطوطة: (الزبون: الدفوع. والزبن: الدفع، ومنه الزبانية).

ويقول المرزوقي: (والزبون الدفوع، ومنه الزبانية).

* جاء في المخطوط:

فقالوا ثنتان لا بدّ منهما صدور رماح أشرعت أو سلاسلُ تقول المخطوطة: (أي لا بدّ من احداهما).

ويقول المرزوقي (المعنى لا بد من احداهما).

* جاء في المخطوط:

أقول للحيان وقد صفرت وطابي ويومي ضيق الحجر معور جاء في المخطوطة: (صفرت وطابي: خلا صدري من ودهم).

وقال المرزوقي: (وقد خلا قلبي من ودهم).

ولو كانت هذه النماذج قليلة لهان الأمر، أما ان تكون جميع شروح المخطوطة موجودة في شرح المرزوقي وبهذا النقل الحرفي، فما يشجع على القول ان تاريخ تألف المخطوطة قد سبق تأليف المرزوقي لشرح الحماسة، فاذا ما جعلنا هذه الملاحظة رفقة الحجج والأدلة الأخرى، فلن تجد مناصاً من الا عتراف بأن مؤلف المخطوطة قد سبق المرزوقي وان نسبة الكتاب الى احمد بن فارس، كما نص عليها القدماء نسبة صحيحة سليمة.

اما الارتكاز على التشابه في الكتب القديمة لالغاء دلالة نقل المرزوقي من المخطوطة المذكورة، فمسألة لا أظن العلم يرتضيها. فالتشابه شيء والنقل شيء آخر، والتشابه يكون في بعض المواضع لا في نقل الكتاب برمته.

3 ـ كاتب المخطوطة عالم لغوي له صفات أسلوبية استجلبناها من نصوص المخطوطة ذاتها وقارناها مع أسلوب ابن فارس في كتبه الأخرى، فوجدناها متطابقة تماماً، وقد تناولنا ذلك في مقدمة الكتاب، وكذا في كتابنا «المقامات من ابن فارس الى بديع الزمان» ومقدتنا لمجمل اللغة. وتنظر مقدمة كتاب الحماسة (ص 38 ـ 39).

أما حديث الباحث الفاضل عن المخطوطتين اللتين ذكرهما، فأتمنى ان يتفضل بالحصول على أي منهما، وسيرى تماماً انهما متأخرتان جداً عن عصر ابن فارس، وقد سبق ان اطلعنا عليهما، فرأيناهما مضطربتين جداً ومتأخرتين جداً بحيث لا يرقى نسخهما الى اكثر من مائتي عام عن أيامنا هذه. كما ان مخطوطة طهران لا علاقة لها بكتاب حماسة أبي تمام اطلاقاً. اما مخطوطة الاسكندرية فان علاقتها بشرح حماسة أبي تمام، كعلاقة قدامة بن جعفر بكتاب نقد النثر.

أما ورود اسم (ابن أبي الصقر) فهو الراوية (اسماعيل بن أبي الصقر التميمي) وكان معاصراً للأصمعي، المتوفي حوالي سنة 215 للهجرة، أي قبل عصر ابن فارس بحوالي مائتي عام. (يُنظر كتابنا «معجم الأصمعي» ص 112، ط. عالم الكتب 1997).

اضافة الى هذا كله، فان عنوان المخطوة واسم شارحها من الوضوح بحيث لا يحتمل أي تأويل، ولا نجد مبرراً واحداً لنفي تلك النسبة، وأعتقد ان حاجة نفي الثابت الى الأدلة اكثر من حالة اثبات الثابت أصلاً، وذلك ما لم نجده في مقالة الدكتور العطية مع الأسف.