من حول تركيا من أقوى دولة إسلامية إلى أضعف دولة شبه أوروبية؟

TT

* من د. عبد الرحمن حميده ـ دكتوراه الدولة في الآداب من السوربون (فرنسا) رئيس قسم الجغرافيا بجامعتي حلب ودمشق سابقا:

ان اطلاق صفة الاستعمار على الفتوحات العثمانية التي بلغت ابواب فيينا، العاصمة النمساوية في المرة الاولى عام 1529م والثانية في عام 1683 دون ان تتمكن من فتحها بسبب المقاومة الشرسة التي لاقتها من القوات البولندية والهنغارية والصربية في البر، ومن الاساطيل التابعة لاسبانيا والبندقية وجنوا ودولة البابا في البحر كما حدث في معركة ليبانت Lepente عام 1571م او في معركة نافارين على السواحل اليونانية سنة 1827 حيث تضافرت الاساطيل التابعة لروسيا وانجلترا وفرنسا في تدمير اسطول الدولة العثمانية واسطول محمد علي، اي كانت حروبا تذكرنا بالحروب الصليبية.

والسلطنة او الخلافة العثمانية لم تكن تختلف عن العهد الايوبي بعد صلاح الدين في عام 1174م او عهد المماليك البحرية سنة 1250 او البرجية في 1381، او بعبارة اخرى لم تكن دولة عربية بل اسلامية، لا سيما بعد ان فتح السلطان سليم الاول القاهرة عام 1517 بعد عام من معركة مرج دابق التي هلك فيها آخر المماليك وهو قانصوة الغوري في معركة مرج دابق قرب حلب واصطحب معه الى القسطنطينية آخر خليفة عباسي ومعه البردة الشريفة المحفوظة في متحف طوب كابو في الآستانة حيث تنازل عن الخلافة وكسا السلطان التركي بالبردة ذاتها. واذا لم يستطيعوا تبني اللغة العربية فقد تبنوا حروفها حتى الغاء الخلافة عام 1923 على يد مصطفى كمال الذي امر باستعمال الحروف اللاتينية وكذلك تبني القبعة الاوروبية بحيث حول تركيا من اقوى دولة اسلامية الى اضعف دولة شبه اوروبية لا تزال تلهث، دون نجاح يذكر، في الانضمام الى المجموعة الاوروبية اقتصاديا وسياسيا.

وهكذا نرى ان الاستعمار بمعناه الحقيقي يعني الاعمار والبناء القائم على خلق البنية الاساسية وتحديث استثمار الموارد الطبيعية بشكل علمي ولكن ذلك غالبا لمصلحة الدولة المحتلة ومواطنيها، كمد السكك الحديدية ومكافحة الامراض المستوطنة او السارية، واقامة الجسور على الانهار وبناء السدود والقناطر وتحديث الزراعة، ولكن دون اخذ مصلحة السكان المحليين indigenes بين الاعتبار، لان العناية الصحية قد تفيدهم ولكن بالدرجة الثانية وخشية سريان الامراض بالعدوى الى ابناء الدولة المحتلة من جهة، وتحسين صحة ابناء البلاد الاصليين كي تستعين بهم الدولة المحتلة كجنود في حروبها، وكعمال كثر لا يتمتعون بالمزايا الاجتماعية والحقوق ويقنعون بأدنى الاجور، وهذا ما فعلته فرنسا في اقطار المغرب العربي، وايطاليا في ليبيا والصومال، وانجلترا في مصر والسودان والهند.

وعليه لا تنطبق صفة الاستعمار على السلطنة العثمانية التي اوجدت اكبر امبراطورية اسلامية في التاريخ شملت حوض البحر الاسود واوروبا الشرقية بالاضافة الى الاقطار العربية.

وفي مطلع القرن الثامن عشر بدأ الانحطاط يدب في جسم الدولة العملاقة، ولا سيما لافتقارها للتقاليد البحرية العريقة كبناء السفن الحديثة والتسليح الثقيل الحديث.

وقد دفع العرب غاليا ثمن انحيازهم الى الغرب في الحرب العالمية الاولى وغدر بريطانيا بمواثيق الشريف حسين ـ مكماهون ونهاية الشريف حسين سجينا منفيا في قبرص، وكان من جراء هذا الانحياز حقد اتاتورك الاعمى ضد العرب، بعد ان حارب الغزو الايطالي في ليبيا الى جانب السنوسيين ورأى بعينه سقوط حلب بأيدي القوات البريطانية والفرنسية في حين كان الكثيرون من العرب يحاربون على جبهة قناة السويس ضد القوات الانجليزية والاسترالية الغازية، ومنهم والد حسني الزعيم ثاني رئيس جمهورية سورية الذي كان في عداد المتطوعين للجهاد واستشهد هناك، او بعبارة اخرى كانت الحركات القومية المشبوهة سواء لدى الاتراك في ايام السلطان عبد الحميد ورشاد او لدى العرب سبب معظم الكوارث التي تجرعنا غصصها.

وهكذا نجد ان اوروبا الغربية تعمل جاهدة نحو الاندماج، مع احتفاظ كل دولة بشخصيتها، والتمتع بحرية تنقل المال والرجال عبر الحدود، حتى ان فرانسوا ميتران، رئيس جمهورية فرنسا الراحل، قال: «القومية تعني الحرب» طبعا حينما تكون القومية شوفينية، قصيرة البصر وعديمة البصيرة. والخلاصة: ان تكرار البعض لعبارة الاستعمار يعني ان العرب تحملوا ذل الاستبداد العثماني اربعة قرون كاملة دون ان يقوموا بثورة حقيقية لان ثورة العرب خلال الحرب العالمية الاولى هي بالاصح «ثورة لورنس» ومن شاء فليقرأ كتاب «اعمدة الحكمة السبعة» ولكن باللغة الانجليزية حيث يرى ان لورانس دمر الخط الحديدي الحجازي عمدا ليقطع صلة العرب ببعضهم ولم يتم بعد تشغيله رغم اصلاحه.

* انظر كتاب بيير روندو P.Rondot الفرنسي وعنوانه «الاسلام والمسلمون اليوم» والصادر في باريس عام 1958.