بانوراما التطور الإنساني من ظهر أولا.. العنف أم الدولة؟

TT

يلاحظ المرء كيف ترك الكاتب خالص الجلبي في المقال الذي نشر له في جريدة «الشرق الأوسط» بعنوان «كيف نشأ العنف في التاريخ»، العدد 8058، قصده من حشد هذا العدد الكبير من النصوص المقتبسة من أعمال بعض الكتّاب من دون مراعاة الزمان والمكان، وقد سبق ونشر لي موضوع عالجت فيه تصورات الكاتب جلبي عن العنف وتعارضها لوقائع التاريخ. وفي مداخلتي هذه سأتعرض لمفهوم الدولة عند ابن خلدون ولماذا ظهر العنف قبل ظهور الدولة؟

لن نسهب في هذا المقال، نقد مغالطات جلبي التي وردت في مقاله بذريعة ان ـ حسب قوله ـ «هذا التسلسل ـ مفيد ـ للاطلال على بانوراما التطور الإنساني واكتشاف مكان الدولة» ليس هذا انتقاصا، إنما نترك هذا لمناسبة أخرى سنرد فيها على موضوع جلبي آخر جاء في صحيفة «الشرق الأوسط» بعنوان: «بقايا عظمية متحجرة كشفت عن اقدم إنسان..»، وسنركز هنا في البحث عن العلاقة بين العنف واكتشاف مكان الدولة لاختلافنا معه (جلبي) في التصورات التي أوردها مقاله لكي ندرك سر «التفكيك الاجتماعي والانثروبولوجي لعنف الدولة» بعيدا عن التصورات الوهمية المخادعة. وأول ما يتوارد لذهن المطالع لمقاله، هو السؤال عن ما إذا كانت الدولة قد جاءت حقا «تتويجا لولادة المجتمع الإنساني» كما يدعي؟ فإذا كان معه الصواب، فلماذا سبق العنف ظهور الدولة؟.

إذا واجهنا جلبي بالسؤال الذي عنّ لنا يستنجد بابن خلدون قائلا «إن المجتمع الإنساني يشكل (ضرورة) انطلاقا من حجتين: (تأمين الغذاء) و(نظام الحماية)، ولكن هل ترى يتحدث ابن خلدون عن الدولة أم عن ما يسميه جلبي «المجتمع الإنساني»؟، ويزداد غموض الصورة ذلك الاعتقاد ان «اختراع (الدولة) كان تتويجا لولادة المجتمع الإنساني بعد بزوغ ما لا يقل عن ثلاثين حضارة من رحم 600 مجتمع بدائي» لكن هذا التأكيد لا يوضح حقيقة «المجتمع الإنساني» لأننا لا نفهم هنا ما إذا كان القصد هو المجتمع لذاته أم الدولة كمؤسسة لإدارة المجتمع؟، ولا يتضح لنا من السياق ما إذا كان تأمين الغذاء ونظام الحماية لأفراد المجتمع من دون تمييز أو تمايز لا بد أن يكون الواقع غير هذا، إذ عندها تنتفي الضرورة التي يتحدث عنها. وفي السياق نفسه، يصعب علينا فهم مبدأ (نظام الحماية) الذي يرى فيه الكاتب (جلبي) علّة نشأة «مؤسسة العنف» لأن «العنف» لا ينشأ لذاته، إنما ليصبح آلية تسلط ضد طرف آخر وإلا لأصبح مفهوم العنف سوقيا ونفيا لما جاء به على لسان ابن خلدون. ولن يعمينا عن الحقيقة سرد العلامات البارزة للتطور «العلمي» من طباعة وكهرباء وتقنيات حديثة في العصر الإلكتروني لأنها وردت بقصد تشتيت الذهن ليس إلا.

إن جلبي مولع بحشد الرهانات والتلاعب بالحقائق وتقديمها مبتورة ومشوهة، بحيث لا ندري ماهية العلاقة بين الدولة التي ولدت «تتويجا لولادة المجتمع الإنساني» للقيام بتأمين الغذاء ونظام الحماية وبين «ان الثورة الزراعية حررت الإنسان من الجوع للمرة الأولى في تاريخه وكان ذلك قبل تسعة آلاف سنة» وإذا كان الأمر كذلك فلا بد أن تكون للدولة وظيفة أخرى غير ما ذكر.

ولإزاحة الغموض حول مسألة متعلقة بنشأة الدولة التي يقولها إنها «ولدت مع مجتمع المدينة وتقسيم العمل» ما معنى هذا؟ إذا عدنا لحياة الإنسان في الطبيعة وقت ان كان في البدايات لم يكن يملك سلاحا يؤمن به حياته سوى يديه وأسنانه وفي معترك الحياة تعلم استخدام الأدوات المتوفرة حوله (الطبيعة) كاستخدامه قطعة حجر أو فرع شجرة ومعتمدا في غذائه على جمع الثمار وجذور النباتات وصيد الحيوانات الصغيرة. ومع تكدس الخبرة انتقل من أدنى مراحل الوحشية (التوحش) إلى مرحلتها الوسطى ثم اكتشافه سر استخدام النار وتسخيرها لمنفعته في افزاع الحيوانات المفترسة وتعلم ان ينضج اللحم على أوارها فاستفاد جسمه لسهولة امتصاص الطعام اكثر من ذي قبل، وعندما تمكن من استيلاد النار عن طريق الاحتكاك انفصل كلية عن عالم الغاب وتعلم لغة الاتصال (التفاهم) بين الجماعة.