تطور الإنسان.. لا وجود لشيء اسمه «الحلقة المفقودة»

TT

لم يلحظ الكاتب خالص جلبي عند كتابة موضوعه «بقايا عظمية متحجرة كشفت عن أقدم انسان» («الشرق الأوسط»، العدد رقم 8086) الورطة التي أوقع نفسه فيها، اذ اعتقد ان انسان الالفية «كان يمشي على قدمين في افريقيا.. يذرع الارض ذهابا وايابا»، وذلك قبل خمسة او سبعة ملايين من السنين، لانه تناسى ان هذا التأكيد ـ ميزة المشي ـ «معتدلا» (مستقيماً) هو الخط الفاصل بين الانسان وفصيل القردة حين انشقا من غصن خاص يسمونه ـ الانشقاق ـ الحلقة المفقودة، قبل ما يربو على عشرة ملايين سنة حسب داروين أو حتى قبل خمسة عشر ملايين من السنين. والغريب ان جلبي لم يلاحظ ما وقع فيه من التباس ينسف ما جاء به، اذ يرى ان «هذا المخلوق يمشي قبل ستة ملايين من السنين بجلد مغطى بشعر كثيف»، وكان «مسلحا بأذرع جبارة تسهل عليه تسلق الشجر»، هذه ادلة قاطعة على ان انسان الالفية لم يتعرف وقتها الى حياة الجماعة ولم يكتشف سر النار وكان يصارع الطبيعة على انفراد، والاهم انه يقل ذكاء عن انسان نياندرتال neandertal الذي عاش قبل 150 ألف سنة، ثم اندثر (اختفى) قبل 35 ألف سنة. وينصب اعتراضنا على انسان الالفية في الجانب التقييمي الذي ينبع من اطار التراتبية التي قال بها داروين، وذلك بهدف اكمال سلسلة التطور في اطار زمني من الالف الى الياء أو من الادنى للاعلى، لا هكذا خبط عشواء كما فعل تيم وايت ومن لف لفه من امثال بريجيت سينوت، الذين يقلدهم جلبي.

والخطأ الآخر الذي ارتكبه جلبي في جملته، «وهكذا نعرف اليوم ان ما لا يقل عن عشرة أنواع من الانسان ظهرت على وجه الأرض واختفت تماما قبل أن يظهر الشكل النهائي المسمى عاقل العاقل (الهوموسابينس سابينس) ويسود البسيطة، وهو شكلنا الحالي». ربما اراد الكاتب أن يقلل من شأن داروين أو أن يعيد الجدل القديم حول رفض نظرية «الحلقة المفقودة» الذي استعاض عن التعقيد بالتبسيط المخل والمناقض للعلم مدع ان الحياة انما نشأت في الكون الخارجي (الفضاء) ثم نقلت الى كوكبنا بصورة من الصور، كما ادعى البعض ان لا وجود لشيء اسمه «الحلقة المفقودة» لأن الحياة تنتهي ثم تبدأ من جديد.

حقا ان جلبي قد تورط لأن القول بوجود «ما لا يقل عن عشرة أنواع من الانسان»، ـ يقصد التطور من الادنى للأعلى ـ تبسيط يخل بمنطق الاشياء وليس الامر بالبساطة التي يتصورها. فاذا رجعنا للهومنويد الذي انشق عن الاصل الذي يطلق عليه دريوبيثيكوس نجد ان تطوره استغرق زمنا طويلا في اطار ما يقرب من 400 ألف جيل قبل ان يصل ـ التطور ـ الى المرحلة الأولى التي ادت الى انسان اليوم. نصل الآن الى تأكيدات جلبي في ما يخص انسان الالفية كقوله انه كان يملك قامة منتصبة قبل ستة ملايين سنة، فهذا القول ليس دليلا على شيء في سياق التطور لان ـ اعتدال القامة ـ هو الميزة التي ظهرت في البدايات، أي قبل 10 ـ 15 مليون سنة وهو الفارق الذي اعتمد لفض التشابك (التشابه) بين الانسان والقرد. واطلق جلبي تسمية «قرد الأنتان أورانج» ولكن الصحيح هو «الاورانجوتان» Orangutan. وقد تحدث ايضا عن «احتمال ان يتغير شكلنا أو يتطور دماغنا...». ان ما ذكره قد يؤدي الى التباس في الفهم، خاصة تأكيده أن «الحياة... مبنية على البرمجة والتطور». هل يعني هذا ان يتغير شكل الانسان (مظهره)؟ الانسان بلغ قمة (نهاية) تطوره وهو يتربع على قمة (هرم) شجرة التطور، والقصد هو تأثير عوامل البيئة (الوسط) في حياة الانسان، اذ ان الخلل في نظام البيئة يتم بوتيرة متسارعة قد تؤثر سلباً في صحته جسديا (فيزيولوجيا) وعقليا، وهذا ما يدعو الى ضرورة الاهتمام بحماية البيئة من التلوث لدرء المخاطر التي قد تنجم عنها.

وفي الختام نتمنى ان لا يكون انسان الالفية (؟) مجرد تركيبة «قطعتان لفك سفلي وثلاثة عظام فخذية» لاحد فصائل القردة، فتتكرر فضيحة انسان بيلت داون P. Down الحادثة التي اشار اليها جلبي. ولنا عودة في مقال آخر لنتحدث عن الاسباب الكامنة وراء القول «الشمس تبقى في عمرها خمسة مليارات من السنين» ولنكمل بعض الجوانب التي لم تثر نظرا لضيق مساحة النشر لأهمية الموضوع، اذ ان الذي لا يعرف ماضيه يصعب عليه الابحار نحو المستقبل ورحلة الألف ميل تبدأ بخطوة.