هل حالت التعددية القطبية دون صراع الحضارات

TT

كان الاتحاد السوفياتي، منذ الخمسينات من القرن الماضي، يمثل الشريك المنافس والقطب الآخر للعالم الغربي. وكان قادراً على موازنة السياسة الدولية والحد من تنامي وطموحات النفوذ الغربي، سواء على الصعيد الدولي والدبلوماسي، أو على الصعيد السياسي والمصالح والعلاقات مع الدول التي يرعاها. لقد غدت الدول الخارجة من الاتحاد أشبه بدول العالم الثالث فقراً وتخلفاً، سواء في المستوى المعيشي للمواطن، او انخفاض الدخل القومي وتدني أداء الاقتصاد والخدمات، وتفاقم مشاكل الديون والطاقة والتلوث والتضخم وغيرها. وعلى الرغم من محاولة العودة إلى شكل آخر من أشكال الاتحاد، وإنشاء تجمع سياسي واقتصادي يستطيع إيقاف حالة التدهور المتسارع وذلك عبر تأسيس «اتحاد كومنولث الدول المستقلة»، إلا أن ذلك لم يجد نفعاً أو يحد من تدهور الأوضاع الاقتصادية والسياسية، اضافة إلى بروز عشرات المشاكل العرقية والقومية والحركات الانفصالية والنزاعات المحلية حول الحدود والأراضي أو الموارد الطبيعية.

هذه التطورات العميقة وغير المتوقعة أثبتت عدة حقائق، منها ان القوة العظمى يمكن أن تسقط من الداخل. فالقوة والترسانة التسليحية والاساطيل، بل الصواريخ النووية، لم تمنع من سقوط الاتحاد السوفياتي وانفراط دوله، ودول حلف وارسو. وإذا كانت الحقائق التاريخية تأبى وجود قطب دولي واحد مهيمن على العالم، وهذا ما لم يحدث مطلقاً، فإن سقوط الاتحاد السوفياتي عزز من مواقع المعسكر الغربي وعلى الخصوص الدور الأميركي وتأثيره في الساحة الدولية. أما القوى المرشحة للمنافسة كاليابان وأوروبا، وهي أقوى الدول اقتصادياً، فلن تكون منافستها سهلة، إذ يتطلب الأمر عناصر قوة أخرى اضافة إلى القدرة الاقتصادية، فالقوة العسكرية الضاربة هي الأداة الفعالة في مواجهة الخصوم أو القضاء عليهم واخماد الثورات والاضطرابات، اضافة إلى وجود إرادة عارمة وشعور ذاتي بالتوسع والهيمنة ووجود فرص مناسبة لدخول حلبة الصراع والمنافسة، ووجود أهداف وطموحات ترنو إليها تلك الشعوب ومستعدة للدفاع عنها في سبيل تحقيقها. وهذه القوى ما زالت على هامش ساحة التنافس الدولي مع الولايات المتحدة، بل تبدو بصفة الحليف لها أكثر من صفة الغريم، من خلال التحالفات والمعاهدات والمصالح المشتركة في مناطق التوتر والصراع، كما أن لديها مشاكل داخلية وصعوبات متعددة تحد من تلك الطموحات أو تقلص من حجم تطلعاتها نحو نفوذ واسع. لذا يتوقع بقاؤها في حيز المراوحة والتأني بينما تتمدد أميركا بصورة فاعلة على الخريطة السياسية للعالم، وعبر أساليب عديدة كلها تصب من أجل خدمة ابقاء أميركا القطب الوحيد في إدارة السياسة الدولية، وليس ذلك بسر، فقد جاء في تقرير أعده رؤساء هيئات الأركان الأميركية المشتركة بأن «مهمة الإدارة الأميركية في المرحلة المقبلة ـ بعد انهيار وانتهاء الاتحاد السوفياتي والكتلة الشرقية ـ سياسياً وعسكرياً، الإبقاء على الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة في العالم وضمان عدم بروز أي قوة منافسة لها في العالم الغربي وفي آسيا، وفي ما كان يسمى الاتحاد السوفياتي».

كما ينصح التقرير باستخدام القوة العسكرية الأميركية لمعاقبة استخدام الأسلحة الكيمياوية والنووية والجرثومية حتى في الصراعات التي لا تؤثر مباشرة في المصالح الأميركية.

إن الهيمنة المطلقة للنفوذ الغربي، تستوجب رد فعل من قبل الشعوب المستضعفة، وقد يتراوح رد الفعل بين الرفض التام لهذه الهيمنة وهذا النظام الدولي مما يعني الدخول في صراع مرير معه قد ينتهي بهزيمة هذه الشعوب، وبين محاولة التكيف معه والانسجام قدر المستطاع مع مفرداته وتأثيراته وتوظيف إيجابياته لخدمة مصالح الشعوب والأمم أو الانصياع التام والتأييد والدعم والمساندة للنفوذ الغربي.

فهل نحن مقبلون على ما توقعه هنتنغتون من صدام الحضارات، أم ما زال الوهم يسيطر على نبوءته؟