القنبلة النووية «الإسلامية» .. مرة أخرى

TT

عندما كنا صغاراً، كنا ما أن يدور جدل بين خصمين، حتى ينبري لهما ثالث وبيده حفنة من تراب، يسعى بها بين الخصمين قائلا: «المديدة حرقتني» ـ المديدة ضرب من عصيدة الذرة، رقيقة القوام يستخدمها أهل السودان ـ ويظل يسعى بينهما حتى يبادر أحدهما فيضرب الكف الممدوة، ناثراً التراب بوجه خصمه، عندها يبدأ الشجار الذي لم يكن ينقصه إلا من يشعل شرارته، في العادة يكتفي الثالث بالفرجة، وفي معظم الأحوال يلوذ بالفرار.

في عدد «الشرق الأوسط» رقم 8447، لفت انتباهي إشارة مراسل الجريدة في إسلام اباد إلى ما دعاه «محاولات إسرائيلية لتأجيج التوتر على الجبهة الهندية ـ الباكستانية، بغية النيل من باكستان، كونها تمتلك برنامج القنبلة النووية الإسلامية»، مشيراً إلى أن رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري «سيواصل تحركه عربيا ودوليا لدعم الموقف الباكستاني».

ما أن أجرت باكستان تجربتها النووية الأولى في 28 مايو (أيار) 1998، ردا على التفجيرات التي نفذتها الهند، غريمتها التقليدية، حتى سارع قارعوا طبول الحرب إلى التهليل، وبلغ الشطط ببعضهم أن أطلق عليها اسم «القنبلة الإسلامية». وقد راق هذا المصطلح للبعض فصاروا يرددون لفظ «القنبلة الإسلامية»، في وسائل الإعلام كافة، مع ما تحمله التسمية من تهديد مبطّن لخصوم باكستان ـ وما أكثرهم ـ مما حدا بأحد المسؤولين الباكستانيين للإدلاء بتصريح لإحدى الفضائيات العربية جرّدها فيه من صفة «إسلامية»، مبينا أن القصد من البرنامج النووي هو حماية أمن باكستان، لا غير.

الظروف الدولية الحالية لا تحتمل مزيداً من صب الزيت على النار. فكلما ثارت أزمة أحد أطرافها دولة إسلامية، سارع أصحاب «المديدة» إلى السعي بها بين الخصوم. وما أن يبدو لهم ما تحت الرماد من وميض نار حتى يشرعوا في نفخ جمرها، فإذا استعرت نأوا بأنفسهم وتركوا غيرهم يصطلي بلهيبها. في حرب الخليج الثانية، خرجت المسيرات «المليونية» تجوب شوارع العديد من العواصم العربية والإسلامية، يتقدمها قارعوا طبول الحرب، يزايدون ويتوعدون، فما أن علا هدير محركات آلات التدمير، حتى انقلبوا إلى متفرجين، تراهم بمنازلهم أمام شاشات التلفزة في ملابس فضفاضة، يقزقزون اللب ويتحدثون عن أنواع القاذفات، والصواريخ الموجهة، وعن قدرتها التدميرية للبنية التحتية للطرف الذي كانوا يحضّونه على القتال.

القنبلة النووية ـ كأي اختراع بشري ـ لا دين لها. لذا، فإن إلصاق صفة «إسلامية» بها لا يخلو من سوء نية. إن للدول الغربية، عموماً، القدح المعلّى في الاختراعات العلمية كافة، وهي صاحبة النظريات العلمية التي كان نتاجها هذه الأسلحة الفتاكة. لذا، من البديهي امتلاكها مخزوناً يكفي لتدمير العالم، بما فيه ومن فيه، مئات المرات، فيما لو استجابت لصيحات الحرب التي يطلقها قارعو طبول الحرب. ومع ذلك، فلم نسمع يوما بـ«القنبلة المسيحية» او «اليهودية» او «البوذية» او غيرها.

لقد آن لنا ان نوجه تفكيرنا واهتمامنا نحو الداخل، ونحرر عقولنا من إسار نظرية تقسيم الكون الى «فسطاطين». الغرب غير معني بالتآمر علينا والكيد لنا، والا لما انجز في المائة سنة المنصرمة ما انجز من تقدم تقني مذهل على كافة الصعد. لننهل من علومه وننعم باختراعاته وانجازاته ثم ندعو عليه، صباح مساء، ونهدد بـ«القنبلة» اليتيمة، واضعين حكومة باكستان في هذا الوضع الذي باتت عليه الآن.