الثقافة بين العصر والمعاصرة

TT

استوقفني موضوع احمد عثمان «مؤتمر سري للمثقفين العرب.. هل يتمخض عن مشروع اعلامي»، بتاريخ 5/12/2001 يبدو فيه ساخطا على عمرو موسى بحجة ان ما نعاني منه هو «الانهيار الثقافي» و «ظاهرة الارهاب» وهو لا يرى اهمية لحوار الحضارات، اذ ان الغرب، في تصوره، لا يجهل ثقافتنا ولا يتعمد تشويهها، وان كل ما يفعله الغربيون هو ترجمة ما نقوله. ان هذا القول يلامس بصورة مواربة اشكالية ما زالت محل جدل، وتتعلق بمفهوم الاسلام والتقدم الثقافي.

وفي محاولة لسد الطريق امامنا يدعي ان «عصر النهضة» في اوروبا تم بفضل استيراد الكتب التي تخلص منها العثمانيون في مكتبة القسطنطينية، وترجمتها الى اللاتينية، اي لا جديد تحت الشمس. وحين يتحدث عن «حركة التنوير» لا يرى فيها سوى انها «اخذت طابعا اكاديميا ونهجت فلسفة ذات طابع علمي». انه يتحدث عن جانب واحد من الحقيقة ولا يذكر الاسباب التي مكنت اوروبا من اجتياز الحواجز وقيود العصور الوسطى. ان هذا تم من خلال صراع مرير، وهي (اوروبا) تدين في نهوضها من كبوتها للثورات المتعاقبة التي قوضت النظام الاقطاعي. وادى كسر الاغلال الى التحول من التخلف الى الازدهار، وذلك بفضل تراكم الثروة في ايدي قوى اجتماعية تمكنت من السيطرة على ملاحة اعالي البحار. ومع ازدهار الصناعة و «الثورة الصناعية» بدأ عصر البحث عن اسواق جديدة (مستعمرات) ولعبت الكشوفات البحرية واكتشاف العالم الجديد (اميركا) دورا مهما في امتلاك اوروبا ثروة هائلة ساهمت في التقدم العلمي والتقني (التكنولوجي). وبفضل تلك العوامل (التقدم السياسي والاقتصادي والاجتماعي وتوسع السوق) تم انجاز ثورة المعرفة ـ بما في ذلك الثقافة ـ وتطلب الواقع الجديد ثورة في مجال الاتصال والمواصلات (ثورة المعلومات) لسد متطلبات التبادل المعرفي في عصر تحول فيه العالم الى «قرية كونية».

نحن في حاجة الى تغيير الواقع الاجتماعي لا مجرد احياء الثقافة العربية التي يقول احمد عثمان انها منهارة. ان التركيز على جانب واحد من المشكلة يتناقض مع ذاته، خاصة ان الكاتب يرفض فائدة التراث الثقافي لغيرنا من الامم بحجة ان ما كان جائزا في مرحلة سابقة غير جائز الآن. ويرتكز على فكرة ان الداعين للتنوير عندنا «اعتمدوا على الشعارات الرومنتيكية (الرومانسية) واعتمد اهل التراث «العودة الى الكهف العثماني». ورغم المواربة يمكن ان نكتشف سر معاداته للتنوير، بزعم انهم «اعتبروا ان العلم والفلسفة من نتاج الرجل الأبيض»، على الرغم من ان ما فعلته الثورة الفرنسية في هذا الشأن حتمته خصوصية الواقع الفرنسي آنذاك. لا شك انه ينظر للأمر من خلال اطاره الفكري الملائم لميوله السياسية حتى عندما يتحدث عن الامل في «احياء حضاري جديد» بعد الحرب العالمية الاولى، وان الثقافة ازدهرت تحت الاحتلال. ويرمي بثقل الازمة على عوامل خارجية واخرى على كاهل ما يطلق عليه «جيل جديد من الماركسيين» لإنكارهم «تراث العرب القديم» واستخدام الثقافة للوصول الى السلطة و«التحالف مع القيادات السياسية لفرض تنويرهم على المواطنين»، وفي خضم البحث عن تبريرات لحججه الواهية يغفل الدور الرائد لرواد «النهضة العربية» ومحاولاتهم الجادة في سبيل نهضة عربية شاملة. ويرى نهضة العرب واحياء الثقافة لا في السعي للتقدم العلمي والاقتصادي والسياسي، وانما بالرجوع الى الماضي والانطواء (الانكفاء) على الذات، وهو لا يدري ان الأمة الاسلامية مستهدفة.

ويبدو ان الحديث عن مظاهر التقدم في مجال التكنولوجيا (التقنية) كان بمثابة ديكور لأننا لا نفهم تفسيرا للتناقض بين الدعوة لتغيير نظرتنا الحالية الى الثقافة وفتح آفاق جديدة امام ابداعنا لدخول القرن الحادي والعشرين لا لابراز الصورة الحقيقية لواقعنا وارتباطنا بالحياة، ماضيا وحاضرا ومستقبلا، والتفاعل الايجابي مع حضارة الآخرين، وانما برفض التحديث والعودة لحياة العزلة وحياة القرون الوسطى. ان تلك الرؤية تذكرنا بالتيار الرومانسي الذي كان سائدا في اربعينات القرن الماضي في مصر، ويحن الى الماضي لاعتقاده ان العودة الى الفرعونية مرادف للوطنية، كما كان في كتابات علي أحمد باكثير، وعبد الحميد جودة السحار وغيرهما. اذ كان ما يسوغ تلك النزعة للتمسك بالامجاد القديمة هو الرغبة في مواجهة قوى الاستعمار والحضارة الغربية. ولكن تكرار القصة الآن لن يساعدنا في اجتياز المصاعب والنهوض من الكبوة للحاق بعربة التقدم باستيعاب روح العصر، لأن عجلة التاريخ تتقدم بحتمية من دون ارادة الانسان (البشر).