صراحتنا وصراحة الآخرين

TT

انني اقدر الجرأة الايجابية للكاتبة القديرة «زينب حفني» لقد قرأت لها في صفحة الرأي بتاريخ 2002/4/27 ص 21، مقالة يشع منها شيء من أنوار القاهرة، ان مقالاتها غنية ولها جودة، قل ان نجدها من بعض الاعلاميين الكبار. ففي موضوعها الذي نشر بتاريخ 27 ابريل (نيسان) تحت عنوان «دور المثقف في ثورة الواقع» نراها بدأته بافتتاحية جميلة عن عصور سابقة، وهي ان حضارات الامم قامت على مناكب علمائها ومفكريها الذين تعاقبوا على حمل تركة العلم والمعرفة، الذين رفضوا التنازل عن مبادئهم التي آمنوا بها، ثم ختمتها بالتأكيد على النزاهة وبأن المثقفين الحقيقيين هم الذين يسعون لتطوير مجتمعاتهم ويحفظون واجهاتها من التدهور ويرممون دروبها المتعرجة ويفتحون اشرعة الفكر على آخرها على مروج الخير والعدل والحرية الى آخر تلك المقدمة الجميلة، وهذا هو الذي تمكن من تحقيقه بدرجة لا بأس بها كبار مفكري الامة في فترات نادرة من تاريخها الحديث واغزرهم من مصر ولبنان. لكن أعطت في الفقرة الثانية من الموضوع انطباعا بأن حضارة العرب هي من انتاج العرب فقط، بينما الحقيقة تقول انها حضارة دولة الخلافة الاسلامية بلسان عربي، ساهم فيها كل مفكر ومبدع دخل تحت مظلتها آنذاك، وهذه حقيقة لا بد ان تجير لانفتاح الاسلام على الآخرين وعلى مختلف الثقافات، تلك السماحة التي تجسدت آنذاك في قلاعه الرئيسية بدءاً من المدينة المنورة انتقالا لدمشق ـ مرورا ببغداد ـ ووصولا لقرطبة وانتهاء باسطنبول حيث جميعها في أوج مجدها جمعت ورعت ولم تميز، ايضا تحدثت عن المستعمر الذي أتى للمشرق العربي منذ بدايات القرن الماضي وخلف المآسي، ففي رأيي الشخصي انه أتى فقط بالمقص والحفار وبخل علينا أو نسي أو تناسى ان يجلب معه (أدوات التطوير: المطبعة والجريدة) لأنه لم يكن ينشد في قدومه تقدم مجتمعات الشرق العربي ولا الاستجابة لمحاولات تطوير ورقي الوعي الفكري لابنائه. لذا وكرد فعل آنذاك رأينا كيف انه رغم حصار الكلمة توقدت من جديد مشاعل الفكر من القاهرة ومن بيروت كقلاع أولى لنهضة الفكر في الشرق العربي والتي نمت على مراحل بحرية الكلمة وأدوات تجسيدها، فأخذ الفكر العربي يحيا من جديد وينمو ويترعرع ليشع على بقية المنطقة. لكن ذلك الاشعاع الذي كان من الواجب ان ينقل المنطقة برمتها من حالة التخلف التي عانت منه منذ السنوات الاخيرة من عمر الرجل المريض (الدولة العثمانية) سرعان ما حجب بحواجز التشرذم ونزاعات قبلية السياسة العربية وتلك الثورات المتتالية خاصة بعد الحرب العالمية الثانية.

انني أوافقها الرأي في ما قالته، فتلك الحماسة في الفكر العربي لمناهضة المستعمر الغريب والبحث عن استقلال المصير قبل استقلال الحصير «كما تقول» سرعان ما توارت وضمرت مع اندلاع الحرب العالمية واستمر الحال تقريبا الى يومنا هذا. هي بالطبع حددت الفترة من الحرب العالمية الثانية الى احداث الحادي عشر من سبتمبر 2001. ان تساؤلها هو تساؤل يتكرر، وهو: هل يوجد مثقف في العالم العربي؟، واذا كان فمن هو هذا المثقف؟ انه تساؤل واشكالية لم يجرؤ الاعلام العربي منذ سنوات على سبر اغوارها وابرازها على مستوى جماهيري، فالمتابع لتاريخ تطور الفكر والثقافة العربية يلحظ ان مصابيح الفكر التي اشتعلت وتوهجت آنذاك وأنارت دروب العتمة العربية وسعت لمحاربة كل اشكال الجهل والتخلف انطفأت أو توقف بعضها أو تحول جلها لأكوام «تجمر تارة بصعوبة وترمد تارة أخرى بكثافة». لقد ذكرت قصيدة للشاعر السعودي غازي القصيبي حول ما يجري في فلسطين، في ثنايا موضوعها، وذلك لأن احاسيس الشعراء تطفو للسطح نتيجة لتلك المشاهد المؤلمة التي يتعرض لها الابرياء. ان أمانة الكلمة والمشاعر النبيلة والكلمات الصادقة لا تعوقها اية حسابات. وأود ان اختتم، بعبارات قيمة في معانيها نشرت على صفحات «الشرق الأوسط»، أولها ما قالته الكاتبة نفسها في مقالة قديمة لها بتاريخ 2000/9/9 ص8 من انه «ليس هناك أصعب على المثقف العربي من ان يقضي عمره في اللهث خلف سراب خادع». ثم أمرُّ في عجالة على مقالة للكاتب الاميركي توماس فريدمان نشرت ايضا في «الشرق الأوسط» بتاريخ 2002/3/7 ص21 وسعى فيها لكشف الواقع العربي حتى وان حاول ان يقلل من حجم مأساة شعب فلسطين رغبة منه في تقييدها وبأسلوب ذكي، إلا انه ككاتب أميركي يسجل له ايجابا قوله «بأن الإسلام أكمل الديانات السماوية الثلاث، وبأن الافتقار للتمتع بعزة النفس لدى المسلمين هو الذي يقف خلف الكثير من غضبهم». والمدهش انه قول واقعي من اميركي حتى وان كان ذا ميول معلنة تختلف عنا. أما أفضل ما يمكن ان اختم به فهو مقولة الملك المغربي الراحل الحسن الثاني يرحمه الله خلال المؤتمر السادس لاتحاد البرلمانات العربية الذي عقد في الرباط والذي عبر خلاله آنذاك عن ألمه من الواقع العربي المؤلم حين قال «لم أر قط الأمة العربية مريضة كما هي الآن، وخوفي ان يذهب بنا التاريخ الى النار قبل ان يذهب بنا الله سبحانه اليها».