زمن روسي يتطلع نحو نيويورك

TT

من كان يتصور قبل اثني عشر عاما 89 ـ 90م، تلك النهاية السريعة لتلك الامبراطورية السوفياتية المنغلقة! بل ومن كان يتوقع انه بعد ذلك المشهد المثير لتحدي الرئيس السوفياتي خروتشوف اميركا في منتصف القرن الماضي من على منصة الامم المتحدة يخرج احد احفاده طالبا الجنسية الاميركية، ويفاخر بذلك ويرى انها تحتوي مضامين كان يفتقدها في بلاده روسيا. لقد كانت تلك امنيات بعض المشاهير او العامة في المعسكر الشرقي ممن يتطلعون الى العيش بحرية والتمتع بحياة في دولة ذات شفافية واقتصاد حر وقوي.

اليوم نقرأ عن شباب روسي يافع في مقتبل العمر اصبحوا طلابا في جامعة تورو الاميركية في موسكو التي انشئت في عام 1991، فهل راودهم ذلك الحلم وتلك التطلعات، التي راودت حفيد خروتشوف وغيره بالعيش في اميركا او الحياة بحرية حتى ولو كانت على النمط الغربي الاميركي. حلم وتطلعات يبدو انها تعشش ايضا في اذهان كثير من الروس. فها هم الطلاب الثلاثمائة في الجامعة الاميركية بموسكو يحلمون بالانخراط في عالم المال والعولمة، ووسيلتهم الى ذلك هي الحصول على دبلوم الاعمال والادارة الاميركي الشهير MBA: Master of Business Administration. مفتاح بوابة كهف علاء الدين التي ستفتح لهم ابوابها الكبيرة في الشركات الروسية الكبرى او الشركات الدولية بفضل تعلمهم واتقانهم اللغة الانجليزية التي هي شرط اساسي.

في الحقيقة يبدو ان الوجود التعليمي الاميركي في موسكو هو استجابة لتحقيق التطوير ولسد الاحتياجات الروسية في مجال التعليم الرأسمالي المتخصص، فلا مجال لتلك «العشوائية الشيوعية»، فكل شيء في مجال الاعمال محدد بالوقت وبالمال.

ان تكاليف الدراسة عالية، حيث تبلغ ستة آلاف دولار في العام الواحد، وهناك منح اميركية للمساعدة والتخفيف، بل ولتشجيع المتميزين، تبلغ ما بين الف والفي دولار سنويا. العديد من هؤلاء الطلبة يحلم بعد التخرج بالذهاب والعيش في الغرب وخاصة نيويورك، انهم يعتقدون انهم سيكونون مؤهلين في مجال المال والاعمال للعمل هناك. ويكاد كل روسي يحلم الحلم نفسه، غير ان بقاء هؤلاء الشباب في روسيا ربما يحقق لهم حظا أوفر، فهم سيصبحون، كما يقال، «الخطوط الأمامية» للرأسمالية هناك، لأنهم معدودون وقليل منهم المتمكنون من اللغة الانجليزية. ميزة قد تجير لهؤلاء الطلبة الروس «الرأسماليين» في ما اذا بقوا في روسيا والمساهمة في الحد من هروب الأدمغة الروسية، التي تضاعفت خلال التسعينات الميلادية، بعد ان فقدت الأمل في بلادها، حيث تبين بعض الاحصائيات ان من بين الطلبة الروس الذين يدرسون في الخارج هناك %70 يبقون في الخارج، يوجد %10 منهم في الولايات المتحدة الاميركية نفسها. الآن تبدو هذه الحقائق بدروسها امام العالم العربي. فالتوجه الروسي للاستفادة من «خصمه التقليدي» لتحقيق الخلاص من كثير من ماضيه الوهمي، والذي لم يقدم سوى التخلف عن الركب، قد يقدم درسا ايجابيا لبعض العرب للاستفادة الفعلية من «حليفهم التقليدي» للنهوض سريعا ولنفض الغبار المتراكم الذي اوجدته السلبيات، بل وترك كل رواسب الماضي التي تعيق ذلك السعي الحقيقي للاستفادة ايجابيا من الانفتاح على العالم من دون عوائق ومن دون خوف او خداع للشعوب والاوطان، وفي الوقت نفسه من دون ارتماء في الاحضان انبهارا او اضطرارا. فقط الثقة بالنفس والوضوح مع الذات وامام الكل والتاريخ الحقيقي المنقح هي سفن العبور مع الآخرين الى شواطئ الأمان.