حبنا لفنانينا الكبار ليس «مؤامرات مازوشية» كما يظن اللاذقاني

TT

أجد متعة كبيرة في قراءة مقالات محيي الدين اللاذقاني، لأسلوبه الشيّق وللمعلومات المفيدة، والطريفة التي يتحفنا بها، وللعمق والأصالة التي يتميز بهما. إلا أنه في مقالته «مؤامرات مازوشية»، بدا لي وكأن كاتبها هو شخص آخر، أو ربما كان الكاتب في مزاج سيئ. أنا في بلاد الغربة منذ أكثر من ثلاثين عاما، وعندما أتحدث عن بلادي أتذكر كيف ولماذا تركتها وأرى ما حل بها خلال هذه السنين، وأتألم لما أصابها، ولكنني بعد أن «أفش خلقي» أذكر قول الشاعر:

بلادي وإن جارت عليّ عزيزة وأهلي وإن ضنوا عليّ كرام وأمسح دمعة تترقرق في عيني رغما عني. فالشاعر هنا لم يقصد أن يتهم بلاده بالجور وأهله بالبخل، بل إنه يقول إن البلاد عزيزة سواء جارت أم لا، والأهل كرام سواء بخلوا أم لا. وليت اللاذقاني يستمع إلى العراقي الكبير، محمد القبانجي، وهو يشدو بهذا البيت بعاطفة جياشة وحنان دافق.

ومما أثار انتباهي، في المقال عينه، الطريقة التي يتحدث بها اللاذقاني عن أعظم فنانينا. كيف يصف صوت فريد بـ«الأجش»؟ وهو الصوت الذي يفيض حنانا وشجنا؟ ثم يقول عن عبد الوهاب «يجأر...»، وصوت عبد الوهاب يسري كنسمة باردة في مساء صيف قائظ. ولم تنج لا أم كلثوم ولا العندليب الأسمر. سامح الله اللاذقاني، هؤلاء أساطين الغناء ونحن نطرب لغنائهم ليس لأننا «مازوشيون»، بل لأننا نريد أن نهرب من واقعنا المزري فنتفاعل مع الشجو واللحن الحزين. ولكننا حين يغمرنا السرور والفرح نغني «الحياة حلوة» و«جفنه علم الغزل»، ونردد مع أم كلثوم «جمال الدنيا يحلا لي» ومع عبد الحليم «وحياة قلبي وأفراحه».

هؤلاء الأربعة هم من خير ما أنتجه لنا القرن الماضي ويجب أن نتحدث عنهم بكل احترام وتقدير، خصوصا إنهم غادرونا وتركونا أيتام الطرب. ماذا يريدنا أن نفعل: نتراقص ونتقافز كالقردة على ألحان الروك والهارد ميتل؟ لا أظن.

منذ أسبوع والاحتفالات جارية في أميركا لمرور 25 سنة على رحيل ألفيس بريسلي. كافة محطات الإذاعة والتلفزيون مكرسة لتخليد هذا الفنان: مقابلات مع كل من عرفه ولو من بعيد، والجميع يرسم له صورة كأنه قديس: فهو الأكرم والأكثر حبا للأطفال، وهو مثال الشهامة في علاقاته مع «صديقاته»، على حد قول إحداهن. وأصبحت «كريسلاند» مزارا لمحبيه. هذا ما يفعلونه هناك لفنانيهم الذين تركوا أثرا على مواطنيهم. فلماذا لا نوفي فنانينا الأربعة الكبار ولو جزءا صغيرا من حقهم علينا، إذ ياما أطربونا وأشجونا وياما سهرنا الليالي مع أم كلثوم لم يبق منها إلا ذكريات عبرت أفق خيالنا. وهؤلاء يشرفون ألف ألفيس وأمثاله. فحبذا لو يقول اللاذقاني في هؤلاء كلمة خير، فهم ليسوا معنا ليردوا عليه.