لكي لا نضيع بين عروبتنا وأفريقيتنا

TT

لا يكاد يصدر عدد جديد من هذه الجريدة العملاقة، حتى يطل علينا احد السودانيين متفاخرا بانتمائه العربي الأصيل أو أصوله الأفريقية العريقة، جاعلا السودان ملكا خالصا له ولأسلافه، متناسيا ما للآخرين من حق. فهذا يريده عربيا خالصا وذاك أفريقيا محضا.

حقا ان امرنا لعجيب، فعلى طاولات ماشاكوس المستديرة دعاة سلام وحب وأخاء، وعلى صفحات «الشرق الأوسط» المنيرة ننشر غسيلا لا يخفى على احد قذارته وقبحه، كاشفين للعالم خبايا وعظم بركان الفتنه الكامن تحت وطن تتجاذبه أيدي العصبية والقبلية المقيتة وتتربصه عيون الأعداء من كل صوب وحدب. فيا أيها الداعي بعروبة السودان، الى ماذا أنت داع؟ الى أمة عربية مهترية بالية، لا تملك نفعا لنفسها ولا ضررا، ولا يكاد يندمل لها جرح حتى ينفتح آخر، تساقط أعضاؤها كتساقط أوراق الخريف، ولك في فلسطين والصومال وأريتريا عبرة، وما ليبيا عنك ببعيد، ولن يزيد الضعيف الضعيف إلا وهنا وخبالا.

قد يقول قائل: وماذا عن تاريخ حضارتنا وإسلامنا وتلك الدماء العربية الجارية في عروق البعض منا؟ الحديث عن التاريخ لا يعني بأية حال غض الطرف عن الجغرافيا، فالسودان قلب أفريقيا واكبر أقطارها، وكما ان هناك دماء عربية اصيلة، فهناك ايضا، دماء افريقية، بكل ما يتبعها من حضارات ولغات وديانات. وأنت أيها الداعي بأفريقية السودان، الى ماذا تريد ألانتماء؟ الى أمة لا تصحو من سبات مظلم عميق ألا على طبول الحرب، ولا يخمد لها نار فتنة حتى يعود الجميع الى بياتهم الشتوي الطويل. فنحن للعرب أفارقة أكثر مما يجب، وللأفارقة عرب أكثر مما يجب. فالسودان مزيج فريد وحلقة وصل بين حضارتين، وبرزخ بين بحر العرب ونهر أفريقيا، فلنأخذ من هؤلاء أحسن ما عندهم ومن أولئك أفضل ما لديهم ونصنع بتآخينا وحبنا ووحدتنا أمة مستقلة قوية هي لنا مصدر عز وقوة ولغيرنا شمس هدى ورشاد، دون تبعية لمنظومة عربية أو مجرة افريقية، أمة سودانية واحدة ليس فينا أخ وأبن عم وغريب، بل كلنا أخوة لا فضل لأحد على أحد أو سيادة لفرقة على أخرى. الجميع يسعى للاتحاد والتكتل ونحن نسعى للفرقة والشتات بتعصب وولاء للقبيلة على الوطن ونرجسية واهية لا يحكمها عقل ولا ضمير. فها هي تركيا وفيها خير مثال ـ بكل ما تحتويه من حضارة إسلامية وثقافة مغايرة ومجتمع هو للشرقي اقرب منه للغربي، تسعى بكل للاتحاد مع جسم لا يجمعها وإياه إلا جغرافية المكان والمصالح السياسية، فما بالنا ونحن عظم ودم يربطنا ما هو أجلّ من المصالح السياسية والحدود الجغرافية.

هذه دعوة لكي ننسى ولو ليوم واحد أصولنا الواهية وانتماءاتنا الزائفة ونذكر أصلنا الراسخ وجزرنا الباقي ـ السودان.