د. بثينة شعبان ومفهوم الوطنية السورية

TT

فوجئت، مثل كثيرين، بمقال للدكتورة بثينة شعبان منشورا في جريدة «الشرق الأوسط» بتاريخ 18 ابريل (نيسان) 2003 وكنت أتمنى أن يكون تعريف الكاتبة بالناطقة الرسمية للقيادة السياسية السورية، بدلا من كاتبة سورية. ومع ذلك تعاملت مع المقال كأنه موقّع باسم اتجاه جديد للقيادة السورية.

وجاء مقال د. بثينة الجديد، الذي يؤكد الأول في نفس الجريدة بتاريخ 13 من هذا الشهر، دليلا على أنها تعبّر عن وجهة نظر، وليس مجرد كلام ارتجالي يتضمن مقتطفاتٍ منتقاة. وهذا يستدعي التعامل مع رأي بثينة شعبان بجدية تتجاوز ترحيبنا الصادق بالتوجه الذي تكتب به، وتطلب منا، استجابةً لدعوتها الصريحة، أن نعرض ما نخالفها به دون الاكتفاء بالرضا عن هذا التوجه الجديد. تحاول الدكتورة شعبان في مقاليها البح1ث في الأسباب الذاتية التي أودت بأحوال «الأمة» إلى ما هي عليه من هزائم، وخاصة أسباب أحوال العراق بعد سقوط العصابة الصداميّة، وما يمكن أن يحل بدول عربية أخرى تستهدفها الولايات المتحدة بسياستها الجديدة في المنطقة. ولقد استطاعت مقاربة الموضوع بشكل مقنع ومبشّر، متقدمة بذلك على شخصيات النخبة السورية ممن لا يزالون عند مرحلة توقيع بيانات التحدي ومنازلة للولايات المتحدة، ومرحلة نبش تاريخها علّهم يكتشفون مثالب لها قبل إبادة الهنود الحمر ليهيجوا الشارع العربي، معتبرين أنهم يقومون بكامل دورهم بمشروع «النهضة العربية» وتنمية وتطوير مجتمعاتهم.

وتستغرب أن «الصوت الوحيد والمسموع» في عراق ما بعد صدام «هو صوت زعيم العشيرة أو شيخ الجامع»، رغم أنها تعرف أن الاجتماع العراقي قائم على الخوف، فعندما ينفرط عقد الخوف لا يبقى أي رابط آخر سوى ما كان مسموحاً وموجوداً بمشاريع «الحداثة المزعومة» التي تعاقب أهالي معارضي الرأي بمنعهم من العمل أو السفر أو…، فقط لأنهم أهالي شخص له رأي يخالف رأي سلطة الحداثة تلك، مما يشكل أحد أسباب دفاعهم الآلي عن سلامتهم عبر تمسكهم بآليات وروابط عشائرية تمنع الأفراد أن يسببوا الأذى للجماعة القبلية. والأهم من ذلك عندما لا يكون مسموحاً لأصوات غير صوت زعيم العشيرة بالوجود، وعندما يمنع عن الناس معرفة نخبها وسماع صوتها، بل عندما تحاصَر الحياة الثقافية فلا يمكن إنتاج نخبة لا يتجاوز عددها أصابع اليد كما يقول برهان غليون. وعندما يُمنع ويسجن الناس لأنهم يدعون إلى تشكيل مؤسسات مجتمع مدني تؤسس لانتماءات اختيارية حرة التي هي شرط قيام الدولة الوطنية الحديثة التي لا ينفرط عقدها الاجتماعي بغياب سلطتها السياسية. لا أظن بعد أن نعرف هذا يمكن أن يكون «لافت للنظر» عودة البلدان «بغفلة من الزمن» إلى طبيعتها القبلية والعشائرية المستترة خلف المستبد القومي وشعاراته «الوطنية» التي تطربنا كونها صادرة من ابن عم لنا بوجه غريب علينا.

لم تستطع الدكتورة شعبان أن توصلنا إلى مفهوم للوطن يمكن أن نفهمه. إذ ما زال الوطن عندها مفهوماً مفارقاً لحياتنا وتجاربنا، كأنه مجرد شعور بالانتماء «للقطر ثم للأمة»، وهي ترى أن الدور هو للمناهج التعليمية «كي تؤكد في عقول وقلوب مواطنيها (الدول العربية) مفهوماً حقيقياً للانتماء الوطني».

إن الشعور الوطني لا يمكن تعلمه من المدرسين بل هو الشعور المتولد من انتماءات معاشة وليست ملقنة. هذا الشعور ليس محفوظات مدرسية بل روابط بالحياة اليومية الفردية. كما أن خير وكرامة المواطن هما ما يجعل الوطن عزيزاً وليس العكس، فكرامة الوطن هي بإقرار وتحقيق كرامة جميع مواطنيه وليس العكس أبداً…أبداً.

أتمنى صادقاً وجود كثيرين داخل السورية يتفقون مع رأي الدكتورة شعبان.