ردا على محمد البدري في مقاله بـ«الشرق الأوسط» الجمعة 12 ديسمبر (كانون الاول) الجاري بعنوان وقفة مع العروبة والأصدقاء، اسمحوا لي ان اؤكد بداية انني لست اصوليا متطرفا ولست عضوا في تنظيم «القاعدة»، ولست ناصريا ولا ساداتيا ولا صداميا او حتى استالينيا. اما عن كيفية ادراكي لهذا اذا تساءل محمد البدري بعد قراءة هذ الرد فان الرد الطبيعي والمنطقي هو انني اعرف قناعتي الشخصية. ولندخل في القضية:
1 ـ لنتحدث عن عمرو بن العاص الرجل المكروه من طائفتهم، هل دمر عمرو بن العاص الدولة الفرعونية وقضى على الثقافة الفرعونية المزدهرة كما فعل احفاد نابليون صاحب الفتح التنويري لمصر عندما اتوا بالتنوير للجزائر. لا يا سيدي الحضارة الفرعونية كانت قد انتهت وتوقفت عن التجدد منذ فترة طويلة بالغزو الفارسي واليوناني والروماني وبالتالي فلم تكن توجد حضارة ولا ثقافة فرعونية ليدمرها ابن العاص.
2 ـ كيف كان حال مصر عند مجيء عمرو بن العاص؟ كان المسيحيون المصريون عند مجيء عمرو يعانون من التطهير العرقي بالمعنى الحرفي للكلمة على يد المسيحيين الرومان نظرا لاعتناق المصريين مذهبا مسيحيا مختلفا عن ذلك الذي كانت تعتنقه الدولة الرومانية. ومن يريد التأكد من ذلك عليه ان يسأل أي أسقف في اية كنيسة مصرية عن أعياد الشهداء المسيحيين المصريين الذين ابيدوا على يد الرومان واعدائهم. لذلك نظر المصريون لعمرو بن العاص عند مجيئه على انه محرر سيحفظ عليهم دينهم وانفسهم وليس غازياً.
3 ـ هل تعربت مصر واسلمت في اليوم الثاني او الشهر الثاني او العام الثاني لدخول عمرو بن العاص مصر؟ الاجابة بالقطع لا، مصر تعربت وأسلمت على مدى زمني يصل الى اربعة قرون بعد دخول العرب، واذا جادل مجادل في ان المصريين انما فعلوا ذلك هربا من الجزية التي تم فرضها عليهم فان الرد الطبيعي هو لم ولم يفعل المصريون ذلك هربا من كم الضرائب والرسوم الرهيبة التي فرضها الرومان عليهم وينقذوا انفسهم بالتحول للمذهب المسيحي الرسمي للدولة.
غير ذلك يتجاهل الجميع من انصار مصر الفرعونية سؤالا اساسيا هو كيف كان ينظر المصريون لحكامهم طوال فترة الخلافة الاسلامية بداية من عمر بن الخطاب وانتهاء بالسلطان عبد الحميد؟ هل اعتبرهم المصريون حكاما اجانب كما اعتبر المصريون البطالمة والرومان ام اعتبروهم حكاما شرعيين. هل اعتبر المصريون الولاة العرب والعثمانيين والمماليك ومحمد علي غاصبين للحكم ام حكاما شرعيين؟ الاجابة التي يرد بها اي قارئ موضوعي غير انتقائي لوقائع التاريخ هي بالطبع لا. ذلك انه طبقا للنظام السياسي القائم في مصر وقتها والمقبول من كل طوائف المصريين مسلميهم ومسيحييهم وهو نظام الخلافة الاسلامية فان الخليفة كان يعين الولاة لحكم الولايات المنضوية تحت الخلافة وهؤلاء هم الحكام الشرعيون. والمماليك في فترتهم الاولى الزاهرة عندما اصبحت مصر حضارة الدنيا كلها، والقاهرة بوكالاتها واسواقها هي المركز التجاري الاول في العالم. هل محمد علي الذي بنى امبراطورية مصرية امتدت من السودان جنوبا حتى حدود اليونان واصبحت مصر في عهده احدى القوى الكبرى في العالم وقتها، هل من الممكن تحت اي منظور ان نعتبر هؤلاء الولاة الذين وصلت مصر في عهدهم الى اوج ازدهارها وقوتها، حكاما اجانب مفروضين من وساطة استعمارية تدعى الخلافة الإسلامية الا اذا كنا سنعتبر تعيين الرئيس مبارك للمحافظين كحكام وممثلين للسلطة السياسية من خارج الاقليم عملا استعماريا من سلطة غاصبة! النقطة الاخيرة هي أن البدري ينعى على الفترة العربية الإسلامية انها لم تنتج اعمالا فنية على شاكلة الكرنك او ابو سمبل او مقبرة توت عنخ امون. بالطبع هم لم يفعلوا ذلك ولكن لماذا تتجاهل النماذج الرائعة للعمارة الاسلامية في القاهرة، جامع بن طولون وجامع محمد علي بالقلعة ومئات التكايا والاسبلة، لماذا تتجاهل المئات من المفكرين والفقهاء والمؤرخين الذين عاشوا وكتبوا في ظل مصر العربية الاسلامية، كيف تتجاهل ابن خلدون والسيوطي وبن تغربردي والجبرتي الذي اعتبره ارنولد توينبي اهم مؤرخ في التاريخ وبالمناسبة الجبرتي ظهر خلال نهايات الحكم المملوكي في ذروة الانحطاط المملوكي. وكيف تتجاهل ابن النفيس الطبيب المصري العامل بالمستشفى المنصوري بالقاهرة الذي اكتشف الدورة الدموية قبل وليم هارفي. واذا كان الامر كذلك فلماذا لا تلوم اليونانيين المعاصرين لانهم بعد ان اصبحوا مسيحيين لم ينتجوا اعمالا ادبية مثل الالياذة والاوديسة ولم ينحتوا تماثيلا مثل التي نحتها الاغريق القدماء ولم يبنوا كنيسة تصل في سموها للبارثينيين. لكل عصر يا سيدي ذائقته الغية النابعة من الدين والثقافة السائدة ونظرة الناس للعالم الذي يعيشون فيه وهذا ما يعرفه اي دارس مبتدئ لتاريخ الفن.
واخيرا اريد ان اكرر انني لست قاعديا ولست اخوانيا ارهابيا متسترا بالدين ولم اعتقل لفترة على ذمة اي قضية ارهاب ديني، وان كنت اعرف ان البدري سيقول كما آخرين عندما يريدون مصادرة المناقشة انني كل ذلك ولكنني للاسف لا ادرك ذلك عن نفسي.