جثث متفحمة في طريق الفكر والمفكر

TT

لو قدر لغونتر غراس ان يوصف معسكرات الأميركيين الملاصقة لجدار بيته بأنها مظاهر موت الامة الالمانية، لشاهد دخانا اكثف من دخان غليونه الشهير في سماء المدن الالمانية. لكن الشاعر والكاتب هذا اجبن من ان يحلم بمقاومة على طراز مقاومة زميله المفكر والكاتب فهمي هويدي. تعاند الكلمات مفكرنا لكنه يحاول ان يجمعها بنفس عناء جمع عدة دجاجات من ازقة ملتوية ليصنع مقالا، حتى لو كانت النتيجة رفع عدد الارامل والأيتام والمعاقين ومزيدا من روائح اللحم البشري المتفحم والامعاء المدلوقة على الارض. يقول فهمي هويدي في مقاله المنشور في صحيفة «الشرق الاوسط» تحت عنوان «لماذا الهجوم على عناصر العافية في الجسد العربي الجريح؟» (خذ مثلا ذلك الهجوم الشرس على جهود المقاومة الفلسطينية واللبنانية، ولاحقا العراقية)، التي قال اكثر من مرة انها الدليل الوحيد على ان الامة العربية لم تمت والاضاءات الوحيدة في افقنا المعتم. نتحدث نحن عن قناديلنا العراقية التي تنير الافق المعتم لفهمي هويدي، ونتساءل ببساطة اهل الجنوب العراقي، اذا كان الافق المعتم يحتاج الى قناديل واضاءات، فلماذا لا يدعون الى اشعالها في قناة السويس، فالمنظر هناك سيكون اجمل واروع واشفى للغليل وتحت نظر اهل الكوكب جميعا ام ان الاضاءات يريدونها من زيت مصابيح الآخرين؟. لماذا تتلألأ قناديلكم بالمساعدة الأميركية فتأكلونها قمحا وبعثات دراسية ومشاريع بناء وفن ومباهج لا حصر لها، أما اضاءاتنا فتكون رؤوسا مقطعة وأيدي وأرجلا متناثرة في شوارع بغداد والمدن الاخرى .

يقسم هويدي بخطوط واضحة امته التي يعتقد انها لم تمت بعد لأن هناك دما يسيل منها في شوارع العراق، الى طبقات تماما كطبقية اثينا، طبقة تأكل عيشا وتزرع وتحصد، وطبقة اخرى تنزف دما تأخذ بناصية الجهاد واعلاء كلمة الامة، تخلو شوارعها الا من الكلاب والسيارت المحترقة بالريمونت وبقايا اوصال الاموات وشعارات الثورة الاسطورية التي تبقي الامة حية كعجوز قبيحة. تنظيرات فهمي هويدي موثقة ومحفوظة في أرشيف ذاكراتنا المبعثر للموت خارج حدود مصر وللحياة والخلود داخل حدودها. لا توجد كلمة واحدة تدعو مواطنيه ان ينيروا دربه بقناديل زيتها دم بشري. وضع مفكرنا مقاومتنا العراقية الى جانب الفلسطينيين واللبنانيين، وهو ينظر الى شيء سنرى نتائجه في المدى المتوسط على شكل بغضاء بين ابناء الأمة التي يريد ان يبقيها حية، فمن يريد استعادة ارضه ليس كمن يريد ان يفرض اجندة سياسية تحت غطاء انارة طريق الامة، فقد استنرنا حتى عشيت ابصارنا من نور مقارعة الامبريالية والاستكبار العالمي، وصارت جلودنا من غير لون لكثرة الثورات الخضراء والحمراء والبيضاء.

كنا نحسب ان المسؤولين والسياسيين والممثلين والطباخين والحلاقين هم وحدهم الذين لا يفكرون بالاستقالة في بلادنا، وقد انضم اليهم المفكرون الذين يصرون على البقاء في الواجهة حتى بعد ذبول فكرهم. لا أرى الله شعبا الاضاءات التي يتمناها فهمي هويدي للشعب العراقي.

[email protected]