هل هناك حقاً «نموذج مهني» للصحافة الورقية كفيل بمواجهة الإعلام الإلكتروني ومواقع التواصل الاجتماعي؟

نعم - .. الصحافة الورقية قد تمرض لكنها لا تموت

TT

يوم أعلنت مجلة «نيوزويك» عن توقف نسختها الورقية نهاية العام الماضي خرج غلافها لذلك الأسبوع متشحا بالأبيض والأسود فيما يشبه النعي.. وعليه العنوان التالي: اليوم الأخير.

المجلة التي كانت تبيع أكثر من ثلاثة ملايين نسخة في الأسبوع، وتحقق رقم إعلانات كبيرا، باعتبارها مجلة النخبة في أميركا، تضطر للموت ورقيا، ودخول عالم النشر الإلكتروني مضطرة وليست مختارة.

ليس هناك سر أن المجلة التي عانت من مصاعب مالية كبيرة في السنوات الأخيرة، بسبب تحوّل المعلنين إلى الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي (السنة الماضية حصل محرك البحث «غوغل» على إعلانات تساوي مجموع ما حصلت عليه الصحافة المكتوبة الأميركية مجتمعة) وبسبب تقلص سوق القراءة الورقية، ليس فقط لأن القارئ الأميركي لم يعد قادرا على دفع ثمن المجلة، ولكن لأن النشر الإلكتروني بدأ يرسخ ثقافته الإعلامية وعاداته الإخبارية.

أولى هذه العادات هي المجانية، والثانية هي السرعة في ملاحقة الأحداث، والثالثة هي قائمة الاختيارات غير المحدودة. تماما مثل شخص كان يجلس إلى طاولة مطعم ينتظر ما يقترح عليه النادل من وجبات محدودة يدفع ثمنها قبل مغادرة المطعم، ولكن في يوم وليلة وجد نفسه أمام «بوفيه» مفتوح عليه كمية كبيرة من الطعام من كل صنف ولون، جلها أطعمة بالمجان.. فماذا سيصنع؟ ستتغير عاداته الاستهلاكية، ونمط أكله، وميزانية جيبه، ومع المدة سيصعب عليه الرجوع إلى المطعم التقليدي.

هذا ما يحدث اليوم للصحافة الورقية في الغرب والشرق معا. منافسة شرسة من الإعلام الإلكتروني الذي يقدم الخبر والصورة والفيديو في قائمة أخبار واحدة ويسمح لك باختيارات واسعة، وبقدرة آنية على التعبير عن رأيك سلبا أو إيجابا.

طبعا هذه السلعة الإعلامية التي تقدم بالمجان في الغالب لا تحمل جودة الإعلام التقليدي ولا رصانته ولا مصداقيته ولا حرفيته. لكن المستهلك أو القارئ يعتبر أن الأمر ليس على هذه الدرجة من الخطورة التي نتصورها نحن معشر الصحافيين، وأنه قد يستهلك مادة غير جيدة على الإنترنت لكنها ليست مادة قاتلة. ثم إن التعدد الكبير الموجود تحت أزرار محركات البحث يمكن أن يقلل من الأضرار الجانبية للمادة الإعلامية التي يدفع المعلن ثمنها لوحده مقابل ترويج سلعه.

لم يمض على الصحافة الورقية في كل عمرها زمن كان وجودها نفسه محل سؤال كما هي عليه الآن.

صحيح تعرّضت الصحافة الورقية لمنافسة كبيرة من قبل الإذاعة والتلفزيون وغابة القنوات الفضائية، لكن هذه الصحافة كانت تعرف كيف تخرج سالمة من هذه المعارك، بفضل تميّز مضمونها التحريري الذي ينحى إلى التحقيق والتحليل والتعليق. فمنذ مدة ليست قصيرة لم تعد الصحيفة «ورقة أخبار» كما يدل على ذلك اسمها بالإنجليزية news paper، فالصحف ما عادت تراهن على السبق الإخباري لأنه بات صعبا عليها في هذا الميدان منافسة التلفزيون والإذاعة.. والآن الإنترنت والهواتف الجوالة وأجهزة الاتصال الحديثة التي أصبحت أدوات لنقل الأخبار وتتبع الأحداث على مدار الساعة.

لهذا اتجهت الصحف إلى الأجناس الصحافية الكبرى (التحقيق - الريبورتاج - البورتريه - الحوار) إضافة إلى الرأي والتعليق والتحليل.

عدد من مراكز البحث في الغرب أصبحت تضع أعمارا افتراضية للورق في أميركا وأوروبا لا يتعدى 10 إلى 15 سنة، بعدها ستصير الصحف الورقية موجودة في مكان واحد فقط هو المتحف.. والجميع سيدخل إلى خيمة «النت» طائعا أو مكرها، لأن الجيل الجديد الذي يكبر اليوم في حضن التكنولوجيا الرقمية لن يكون باستطاعته أن يرجع إلى استهلاك الصحافة في الورق، تماما مثلما هجر الإنسان اليوم السفر بواسطة عربات تجرها الخيول لأنها من جهة بطيئة.. ومن جهة أخرى مكلفة. مع كل هذا فأنا واحد من الذين يعتقدون بأنه ما زال أمام الصحافة الورقية فرص للنجاة من الانقراض.. إذا ما استطاعت أن تجد نموذجا تحريريا واقتصاديا قادرا ليس على مواجهة الموجة الإلكترونية، بل على السباحة مع هذه الموجة ومجاراة التطورات الحاصلة في هذا المجال. كيف ذلك؟

لا أزعم بوجود وصفة سحرية لمقاومة اندثار الصحافة الورقية كوسيلة إعلامية تقليدية لها أوصاف خاصة تتصل بمضمون المادة الصحافية ونوع الجمهور الذي تتجه إليه. لكن يمكن بسط بعض الأفكار هنا بشكل سريع.

1- لكي تستطيع الصحافة الورقية أن تصمد أمام تحدي الإعلام الرقمي، لا بد وأن تصير جزءا من مؤسسات إعلامية كبيرة متعددة الوسائط تستثمر في الإذاعة والتلفزيون والمواقع الإخبارية على «النت» وكل المهن والمجالات المتصلة بالإعلام. وذلك كي لا تبقى معزولة عن السوق التي تنمو بسرعة، وحتى لا تختنق في وسيلة إعلام واحدة. إذن تنوع مجالات استثماراتها ودخولها إلى الأسواق الجديدة والوسائل الإعلامية الحديثة ينقذها من خطر النموذج الاقتصادي الهش الذي لا ينفتح على التطور وعلى تقاطعات مجالات الأنشطة الاقتصادية المتصلة بالإعلام.

2- لا بد للصحافة الورقية من أن تتخلّى عن وهم الانتشار الواسع واستهداف فئات متعددة في الآن نفسه. هذا زمن ولى، وستصير الصحافة الورقية في المستقبل وسيطا إعلاميا نخبويا أكثر وستتجه إلى صنّاع القرار الذين سيحتاجون إلى عمق أكبر في المتابعة الصحافية للأحداث، وتعاليق أكثر من الخبراء والمتخصصين حول مواضيع متشعبة ومعقدة، وإلى تحاليل دقيقة من قبل إطار صحافي مدرب ومتخصص. وبذا ستلبي الصحافة الورقية حاجات معرفية خاصة قد لا توجد على «النت» أو في مواقع التواصل الاجتماعي. لكن هذا يتطلب تغييرات جوهرية في صالات التحرير وفي تكوين الموارد البشرية وفي أسلوب الكتابة الصحافية.

3- مؤسسات الصحافة الورقية مطالبة برفع أثمان بيع الصحف لكي تحقق نوعا من التوازن بين مداخيل الإعلانات ومداخيل المبيعات، التي لا تشكل اليوم إلا نسبة رمزية من مجموع مداخيل المؤسسات الصحافية. لماذا؟ لأن مداخيل الإعلانات ستتراجع حتما مع تدني عدد قراء الصحافة الورقية وارتفاع عدد مستهلكي المادة الإعلامية الإلكترونية. ولهذا على الصحافة الورقية الخروج من منافسة غير متكافئة ومن معركة خاسرة، والتوجه نحو النخبة القادرة على دفع ثمن مادة صحافية رصينة وجيدة ومهنية ومستقلة، لا يتدخل المعلن للتأثير على خطها التحريري ولا ينشغل طاقمها بتوسيع مجال استهداف فئات واسعة.

إن التشبث بالصحافة الورقية ليس حالة حنين إلى الماضي (نوستالجيا) بشكل مَرَضي ولا نزعة محافظة ترفض الاعتراف بالواقع وتفضل العيش في جلباب الأب والجد وجد الجد. أبدا، الصحافة المكتوبة ليست ورقا ومدادا ومطابع. إن الصحافة الورقية أسلوب في الكتابة وعمق في التناول ورصانة في التحرير وتقاليد عمرها أكثر من قرنين.. وكل هذا تراث ساهم في صناعة قصة «السلطة الرابعة» التي طبعت القرن الماضي ببصمات لا تنسى.

* رئيس تحرير صحيفة «أخبار اليوم» المغربية