هل كان قرار غزو العراق صائبا؟

لا-... وكنت ضده قولا وعملامنذ اتضحت لي نيّات واشنطن

TT

عندما أصبح واضحا لدي أن الولايات المتحدة على وشك توجيه ضربة عسكرية كبيرة إلى العراق، هدفها التخلص من نظام صدام حسين نهائيا، كنت ضد التدخل العسكري الأجنبي لإحداث تغيير في العراق، وعقدت اجتماعا في لندن يوم 13 فبراير (شباط) 2003 مع بعض الشخصيات العراقية الذين أبدوا معارضتهم للتدخل العسكري الأميركي، وأصدرنا نداء موجها إلى الأمم المتحدة والحكومات العربية لإنقاذ العراق من كوارث حرب متوقعة.

إضافة إلى ندائنا اقترحنا في البيان الذي صدر عقب اجتماعنا تأليف حكومة عراقية مؤقتة لإدارة شؤون البلاد خلال فترة انتقالية لا تزيد على سنتين، يجري اختيار أعضائها بعد مشاورات مكثفة تجريها الأمم المتحدة، وإجراء انتخابات تحت إشراف دولي لاختيار أعضاء جمعية تأسيسية تضع دستورا يعرض على الشعب لإقراره في استفتاء تحت إشراف دولي، ثم تجرى انتخابات برلمانية بموجبه لاختيار حكومة ستكون أول حكومة ديمقراطية حقيقية في تاريخ العراق.

كان هذا النداء مشابها إلى حد كبير لمبادرة المرحوم الشيخ زايد بن سلطان رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة الذي اقترح أن يتنحى صدام عن السلطة ويؤمن له ولعائلته العيش الكريم والآمن في أي بلد عربي أو أجنبي يختاره، وأن تكلف الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية بإدارة شؤون العراق وإجراء انتخابات تنبثق عنها حكومة مؤقتة ومؤتمر تأسيسي لوضع دستور جديد للبلاد.

هذه المبادرة النبيلة أهملتها معظم الدول العربية، ولم تعرض رسميا على وزراء خارجيتها المجتمعين في القاهرة.

وبعد عودتي إلى العراق صدمت بقرار مجلس الأمن رقم 1483 الذي اعتبر العراق بلدا محتلا، وتطبق بحقه اتفاقيات جنيف لعام 1949، فتكون الإدارة بيد سلطة مدنية مرتبطة بقيادة الاحتلال العسكرية، وقد منحت هذه السلطة المدنية صلاحيات واسعة، واقتصرت المشاركة العراقية على هيئة استشارية؛ لذا عارضت بشدة هذه المقترحات التي تضع العراق تحت الوصاية الدولية، وتسلبه سيادته وحقه في إدارة شؤونه. لكن الحلفاء استطاعوا حمل مجلس الأمن على إضفاء الشرعية على احتلالهم وحربهم المخالفة للقانون الدولي.

وبذلك أصبح من الواجب أن تتحمل الدولتان المحتلتان المسؤولية الكاملة عن كل متطلبات الشعب العراقي، من أمن واستقرار ومتطلبات معيشة وتهيئة الأجواء الديمقراطية الحقيقية التي تساعد على نقل الحكم إلى أيد عراقية.

وفي حديث إلى «الشرق الأوسط» انتقدت الولايات المتحدة وبريطانيا واتهمتهما بعدم الكفاءة والإقدام على الحرب مع توقعهما سقوط نظام صدام سريعا، من دون أي استعداد أو تكوين أي فكرة عما سيكون عليه الوضع بعد انتهاء حكم البعث.

وفيما يتعلق بمجلس الحكم، كنت أشعر بقلق شديد من الاتجاه الطائفي الواضح لبعض الأعضاء الذين اعتبروا التقسيم الطائفي الأساس الذي يجب أن تبنى عليه العملية السياسية، ولم أترك فرصة إلا وانتقدت هذا التوجه، وحذرت من الأضرار التي سيلحقها بالمجتمع العراقي ومستقبل البلاد السياسي.

وحقا استغلت الأحزاب المذهبية هذه الفرصة لإحكام سيطرتها على الشارع، ورأينا النتائج الكارثية لهذه السيطرة التي أوصلت العراق إلى حافة الهاوية. ونصحت الدولتين المحتلتين لاتخاذ مواقف أكثر عقلانية، بعيدا عن سياسة القوة والفرض، ولا سيما التورط في مواجهات مسلحة مع بعض الفئات التي تضررت من تبدل الأوضاع، والتي تشعر بأنها مغبونة ومهمشة ويجري إقصاؤها بنحو متعمد.

دعاني الأمين العام للأم المتحدة كوفي أنان للاجتماع بوزراء خارجية الدول الدائمة العضوية في المجلس للنظر في مشروع القرار عن العراق، الذي كانت الولايات المتحدة مزمعة تقديمه إلى مجلس الأمن. وقدمت عدة تعديلات على المشروع الأميركي.. ما أثار غضب الوزير الأميركي كولن باول. وكانت تعديلاتي تقضي بتوسيع «مجلس الحكم»، وتسليمه السلطة، وإنهاء عمل سلطة الاحتلال المدنية المؤقتة، بينما كانت وجهة النظر الأميركية أن تسليم السلطة يجب ألا يتم إلا بعد قيام حكومة دستورية. فكان جوابي أن انتخاب الجمعية الوطنية وكتابة الدستور واستفتاء الشعب عليه، أمور تستغرق وقتا طويلا، والشعب العراقي لا يمكن أن يصبر، بل يريد إنهاء الاحتلال وتأليف حكومة عراقية لإدارة شؤون البلاد في أسرع وقت.

اتضح لي من الوهلة الأولى أن الأميركان عازمون على اختيار الأعضاء على أساس انتماءاتهم العرقية والمذهبية، لذا عارضت هذا الاتجاه بشدة، وبينت المخاطر التي سيتعرض لها العراق في المستقبل إذا سمحنا للاعتبارات المذهبية والعرقية الضيقة بأن تكون أساس العملية السياسية.

وعدونا بأنهم سيقاومون ويمنعون أي تصرفات تشتم منها رائحة الطائفية السياسية، لكنني لم أصدقهم، وللأسف الشديد صدقت مخاوفي. فالطبقة السياسية التي تولت السلطة بسبب انتماءاتها المذهبية والطائفية أثبتت فشلها ولا أهليتها لممارسة مسؤوليات الحكم، إضافة إلى عدم كفاءتها وفسادها الذي لطخ سمعة العراق.

والآن، بعد مرور عشر سنوات على غزو العراق واحتلاله، أقول والأسى يملأ قلبي إن «الربيع العربي» تجاوز العراق. وبينما عصفت رياح التغيير بالأنظمة والحكام في عدة أقطار عربية، بقي الوضع على ما هو عليه في العراق.

العراق اليوم دولة فاشلة بكل المقاييس، حكومة طائفية فاسدة عديمة الكفاءة، عاجزة عن ممارسة مسؤوليات الحكم والإدارة. والأوضاع الأمنية هشة، والاغتيالات والتفجيرات مستمرة، وأعمال الخطف قائمة. وهناك قوات مسلحة غير شرعية، وميليشيات إرهابية إجرامية تسرح وتمرح في طول البلاد وعرضها، ترعب الناس وتجعل حياتهم جحيما لا يطاق، بينما القوات الحكومية غير جاهزة، بل عاجزة عن حفظ الأمن الداخلي والدفاع عن حدود العراق وأجوائه، بسبب ضعف تدريبها وقلة الأسلحة والمعدات القتالية الضرورية لها، وولاءات أفرادها موزعة وموالية لأعراقها ومذاهبها الدينية.

أدى ذلك إلى استشراء الفساد في كل مرافق الدولة، فانهارت الخدمات المعيشية الضرورية للشعب، وأصبح العراق الغني بموارده المالية وطاقاته البشرية وحضارته العريقة من أكثر دول العالم تخلفا، وظهرت على السطح الأحزاب الدينية والعرقية وقد أحكمت قبضتها على الأجهزة والمؤسسات الحكومية، خاصة في السنوات الست الماضية، لكنها أثبتت أنها غير مؤهلة للحكم، وكان من المتوقع أن يأخذ الشعب زمام المبادرة وينقذ العراق من محترفي السياسة المتاجرين بالدين والمذهب والطائفة، لكن هذا لم يحصل.

العراق اليوم محكوم بنظام المحاصصة الفاسد، ما يفسح المجال لإيران لتقوية نفوذها في العراق ولتجعل منه قاعدة لبسط هيمنتها على أقطار الخليج العربية وبلدانه.

* وزير خارجية العراق الأسبق ورئيس سابق لمجلس الحكم بعد الغزو