.. وهل تغيّر موقفك من الغزو بعد حصيلة 10 سنوات؟

نعم- .. لقد كان الأميركان يفكرون في شيء ونحن نفكر في شيء آخر!

TT

لو سئلت: كيف تنظر بعد مرور عشر سنوات على الحرب الأميركية على العراق؟ لأجبت بصراحة تامة أنني كنت، والكثير غيري، في موقف الحائرين المبتلين بخيارين يصعب ترجيح أحدهما على الآخر بين حرب لا ندري عن ماذا ستسفر ونظام لا يرجى منه خير.

مع أن قرار الحرب أو عدمها لم يكن لنا به رأي، ولا حتى المعارضة العراقية السابقة بفضائلها كافة. أراها أكذوبة، ما نسمعه ونراه في الإعلام الغربي بأن فلانا استقدم الأميركيين أو الحزب الفلاني أوهم الدوائر الأميركية والغربية بوجود أسلحة الدمار الشامل. كل هذا اتضح ليس صحيحا، فالصحيح هو أن الإدارة الأميركية كانت لا تريد تغيير النظام إلا بالحرب، وحل دولة عمرها ثمانون عاما.

لكن كراهيتي وبغضي للنظام السابق، متمثلا برئيسه صدام حسين (أعدم 2006)، وضعاني في موقف حرج للغاية، هو الموقف نفسه خلال الحرب العراقية الإيرانية وحرب الخليج الثانية، وهو الحيرة: أين أقف! فكنت أقف على حافة حادة كحد السيف، متجنبا أي مفردة يفهم منها موقف يصب بجانب النظام أو أخرى تصب إلى جانب الخصم الخارجي.

وتحت هذه الضغوط لم نكذِّب الأميركان، لكننا لم نصدقهم أيضا، حول أن يصبح العراق على أيديهم يابان أخرى، مع أن قبولي أو رفضي للحرب ليس له اعتبار ما. فالحرب مقبلة والأساطيل أخذت تتوافد على مياه الخليج تحضيرا لضرب العراق والسير إلى بغداد.

كنت كتبت لليوم الذي يسقط فيه النظام مقالا، يجمع بين الثقافة والسياسة أو هو على شاكلة الخاطرة، تحت عنوان «صبح الأصباح»، ودفعته إلى الصفحة الثقافية في «الشرق الأوسط» قبل أيام من الحدث. وإذا أجده منشورا ليس بتقدير مني ولا من المحرر في الأربعاء التاسع من أبريل (نيسان) 2003، وأخذتني النشوة بأني قَدّرت، بلا قصد، أن ذلك اليوم هو يوم الخلاص.

لكن بعد النهب والسَّلب، الذي حصل في ذلك اليوم، وفرجة الأميركان على المشهد، وكأنهم يشاهدون فيلما مسليا، أخذ الأمل ينكمش. وصعب علي أن أحسم حيرتي في تلك الأيام، فبقيت أدفع بالأمل وأقول: لعلها سحابة سوداء وستزول، مع أن التراث علمني أن السحب السود ملأى بالقطر، وتبشر بالخير العميم، حتى رُبط لونها بلون عمامة علي بن أبي طالب (اغتيل 40هـ)، التي أهداها له الرسول (صلّى الله عليه وسلّم)، وكان اسمها السُّحاب. ثم بدأ القتل الجماعي وبفنون رهيبة، وتخلى الأميركان عن فكرة التحرير ودخلوا الأمم المتحدة ليقولوا: نحن محتلون! فأخذت لا أقوى على افتعال الأمل، فمثلما يقال: «فاقد الشيء لا يعطيه»! مرّت الأيام والسنون وأنا أنتظر بارقة ما، في انتخابات أو كتابة دستور، وخروج الأميركان، حتى وصلتُ إلى قناعة أنها حرب مدمّرة لا أكثر.

أقول هذا بعد أن تخلصت من ضغط الضغينة، التي كنت مكبلا بها، تجاه النظام السابق. شعرت في صبيحة التاسع من أبريل (نيسان) وسقوط التمثال، بأنني لا أكره بعثيا بمن فيهم صدام حسين نفسه، ولقد كتبت فيما بعد: «لا تعدموا صداما»، و«ليتوقف تبادل الثارات» وغيرها من المقالات.

كنت أحلم أن يخلو العراق من حكم الإعدام وأن النظام الجديد سيفعل شيئا لم تفعله الأنظمة السابقة! إلا أن الأميركان، بعيدا عن نظرية المؤامرة، كانوا يفكرون في شيء ونحن نفكر في شيء آخر.

إنهم يريدون عراقا مضطربا لا مستقرا، عراقا لا موحّدا إلا بالاسم. يريدونه بيت عنكبوت، ومعلوم أنه «أَوْهَنَ الْبُيُوتِ»! بعد أن هدأت العواطف أخذنا نراجع الخطاب الأميركي تجاه العراق في أيام المعارضة، فوجدناه ينفخ في الطوائف على حساب البلاد، وآلته الإعلامية تضخ: شيعة.. سنة.. أكراد. لا حقوق مواطنة ولا إدارة مدنية! لست أنا أقول إنما الحاكم المدني الأميركي للعراق يقول: «أخطأنا أخطاء استراتيجية».

بالنسبة لي لا أظن أنها مجرد أخطاء بل أفعال مع سبق الإصرار، فقد تحول العراق إلى ساحة استقطاب للشركات الأمنية، والذين تضلعوا في حروب العصابات. أموال هُدرت صرفها الأميركان على طلاء جدار مدرسة أو ضخها لمؤسسات إعلامية، مهمتها أن ترفع الأذان بصيغة شيعية وأخرى سنية. وعلى ما يبدو، فإن الإنجاز الوحيد هو إيجاد مدينة محصّنة لهم أولا، ثم للكائنات التي أتت معهم لحكم العراق.

بعد سنوات أخذت أقارن بين اجتياحات المغول والأميركان، فكتبت على صفحات «الشرق الأوسط»: «ليت الغزو الأميركي كان مغوليا»! وأعطيت مبرّراتي، لأن المغول خلال ثلاثة أيام (656هـ) ضمنوا لبغداد الأمن وضبطوا أسعار الأسواق، وأنهوا القتل، ولم يبقوا الحدود مفتوحة للكائنات الشريرة.

كذلك البريطانيون (1917) نجحوا في بناء دولة ومؤسّسات وشقّوا طرقات وشيدوا مدارس وجلبوا مولدات كهرباء ودورا موسيقية. كنا نسمع أن الأميركان ضلعوا في الحرب الطائفية، ولم نكن نصدّق حتى أخذ الشهود يتحدثون عن دورهم في تأسيس ميليشيات وفرق موت.

لو أردت الحديث عن نجاح المهمة الأميركية بالعراق، فإلى أي نجاح أنظر؟

هل أنظر إلى الدماء التي تسفك يوميا ولمدة عشر سنوات بلا توقف؟ أم إلى الأموال التي تنهب؟ أم إلى تحويل العراق إلى ساحة صدامات؟

لست من الحزانى على النظام السابق، وما زال طعم إزالته محسوسا، لكن هل يمنعني هذا أن أنظر نظرة واقعية في الخراب الذي أسفرت عنه الحرب الأميركية، وهو تسليم البلد إلى «القاعدة» و«جيش القدس» الإيراني! أقول: من يتحدث عن نجاح أميركي قطعا لا يقصد العراق، إذ ما زالت هذه البلاد تطحن طحنا، وينطبق على من يكابر ويتحدث عن نجاح أميركي قول شاعرنا محمد مهدي الجواهري (ت 1997):

مضى حمزة الصياد يصطادُ بكرة فآب وقد صاد العشي غرابا نعم كنت متردّدا، وبعد عشر أصبحت متيقنا، بأن الأميركان حولوا العراق إلى عش غراب.. ومعلوم مما يجمع الغراب عشه!

* كاتب وباحث عراقي