مع حسمهم معركة الشارع.. هل بدأوا الصدام مع مفهوم الدولة ومؤسساتها؟

نعم- بدأوا الصدام مع مفهوم الدولة.. لكنهم لم يحسموا الشارع بعد

TT

بداية، أود أن أتوقف عند السؤال ذاته، وتحديدا عند النقطة التي تشير إلى أن رموز الصحوة الإسلامية في الخليج «حسموا الشارع لصالحهم». وهو ما يردّدونه دوما في أدبياتهم، ويحاولون إشاعته بين الناس، وهذا غير دقيق. فالحقيقة تقول إنهم أقلية، ولم يحسموا الشارع لصالحهم إلا إذا كان المعيار لحسم الشارع هو الصوت العالي والصراخ من خلال الإعلام المؤدلج، ووسائل التواصل الاجتماعي. ثم إنهم أقلية مؤدلجة حتى النخاع تؤمن إيمانا عميقا بتأسيس الخلافة الإسلامية في هذا العالم الواسع، وولاؤها هو لمرشد جماعة الإخوان المسلمين أو «الخليفة المنتظر». وهم يصوّرون أنفسهم للبسطاء على أنهم أكبر مما هم في حقيقة الأمر، ويخدمهم في هذا المسعى أنهم يتلبسون بالدين، ويجعلونه مطية للوصول إلى أهدافهم السياسية. وهكذا، خارج إطار قضية «حسم الشارع» لصالحهم من عدمه، فإنهم دخلوا فعليا في صدام مع الأنظمة الحاكمة في بعض دول الخليج.

لقد كان الحلم الأزلي لرموز تيار الإخوان المسلمين الرئيس في مصر، ورموز الصحوة الإسلامية في دول الخليج لاحقا، الاستيلاء على الحكم في الدول الإسلامية، وإعادة الخلافة، تماما كما كان ينظر رؤوسهم من أمثال حسن البنا وسيد قطب وغيرهما. وكان هذا الحلم بعيد المنال على مدى عقود طويلة. ولئن عاني رموز تنظيم الإخوان المسلمين في بعض البلاد العربية، كمصر مثلا، فإن هؤلاء الرموز جرى الترحيب بهم في دول الخليج خلال عقد الستينات الميلادية. وعندها عملوا بصمت من خلال مؤسسات الدول التي استضافتهم، وأسّسوا تنظيمات مشابهة للتنظيم الرئيس في كل دول الخليج تقريبا، ورموز هذه التنظيمات في الخليج هم الذين يقودون الحراك منذ أكثر من 3 عقود.

ودعني أضرب مثلا بالسعودية، فقد حاول التنظيم منذ السبعينات الميلادية السيطرة على كل المناشط، ونجح نجاحا باهرا في السيطرة على التعليم، ثم انطلق من هناك محاولا فرض رؤيته على كل مناحي الحياة. ولأن أعضاء التنظيم براغماتيون من طراز فريد، فإنهم نجحوا في العمل بصمت ودقة متناهية، من دون الصدام مع الدولة، عدا في حالات نادرة، مثلما حصل أثناء حرب الخليج الثانية في عام 1990. وتمكنوا من وضع بصماتهم على المناهج الدراسية، وكل المناشط اللاصفية، إذ سيطروا على معظم المناشط الاجتماعية، حتى أصبح من النادر أن يحاضر أي أحد من خارج التنظيم، ناهيك عن خصومه من التيارات الأخرى. وجاءت الفرصة الذهبية لإخوان الخليج بعد قيام ما اصطلح على تسميته بـ«الثورات» العربية، فمع أن حصفاءهم حاولوا إمساك العصا من المنتصف، فإن كثيرين منهم اعتقدوا أن الساعة قد حانت لتحقيق حلم الخلافة، فانطلقوا فرحين يعلنون ذلك دون مواربة. وضجّت وسائل التواصل الاجتماعي بما لا يخطر على بال، وكانت العجلة هي سيدة الموقف، فقد اتهموا الغرب بأنه سيقف عائقا ضد فوز «الإخوان» في حكم مصر وتونس، ثم بعد أن اتضح أن هذا الغرب (ممثلا بالولايات المتحدة) يدعم وصول «الإخوان» إلى الحكم، قلبوا رأسا على عقب، في تناقض مضحك، وخفت حدة هجومهم على الغرب. ولم يكد «الإخوان» يصلون إلى كرسي الحكم، حتى صار رموز «الصحوة» من الخليجيين يدافعون عن عدوهم الأزلي.. الغرب (!)، في حالة تحكي الكثير عن وضع هذا التنظيم، الذي لم يكن يحلم يوما بالوصول لمعشار ما وصل إليه بعد الثورات! وبعد أن رأى رموز «الصحوة» الإسلامية في الخليج أن نظراءهم وصلوا إلى الحكم في تونس ومصر، نفروا خفافا وثقالا ضد الأنظمة الحاكمة. ولقد تابعنا ما يجري في دولة الإمارات المتحدة، ولا نزال نتابع فصول ما يفعله هؤلاء في السعودية، فديدنهم هو الهجوم على الدولة من خلال الإعلام، وتحديدا من خلال «تويتر»، وبما أن الدولة قائمة على الدين، فإنهم يحاولون (بخبث شديد) اللعب على هذا الوتر، والمزايدة بهذا الخصوص. ومَن يتابع ردود أفعالهم ضد تعيين المرأة في مجلس الشورى، وضد فعاليات مهرجان الجنادرية، وضد معرض الكتاب وغيرها من الفعاليات.. يدرك تماما ما أتحدث عنه، ولكن في خضم كل هذا لا تخفى تناقضاتهم الفاضحة على المتابع المحايد.

رموز الصحوة في السعودية، الذين هاجموا أوبريت الجنادرية في السعودية (مثلا) لم ينبسوا ببنت شفة، عندما زارت مطربة إحدى الدول الخليجية المجاورة، وأحيت حفلا صاخبا (!)، وذات الرموز الذين «بكوا» واستبكوا حتى تم سجن شاب سعودي أساء إلى الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ما زالوا يدافعون عن أحد رموزهم، وهو الذي استهزأ بآيات الله وألف سورة ليست من القرآن ورتلها أمام الحاضرين. ومثل هذه التناقضات تتكشف يوما بعد يوم، مثبتة أن ما يحرك هؤلاء ليس الدين، بل المطامع السياسية. ولا يراودنا شك في أن ولاء هؤلاء الرموز ليس لأوطانهم بل للمرشد العام لـ«الإخوان». وكل ما يقومون به من صدام مع دولهم في الخليج هو لصالح التنظيم الرئيس، ولن يهنأ لهم بال حتى تقوم الخلافة.

مع ذلك، فإن مسيرة حكومتي مصر وتونس لا تبشر بخير، وهذا ينعكس على رؤية إخوان الخليج، خصوصا من تورط منهم في رمي كل أوراقه، وكشف عن صدامه مع حكومته أمام الناس (وهم كثر)، وربما أن المستقبل يخبئ كثيرا من الصدامات، فلننتظر ونرَ.