هل أخطأت دول الخليج في تعاملها مع الثورة؟

لا- ... وبالأخص لجهة التزامها الأخلاقي

TT

حسنا فعلت دول الخليج – خصوصا السعودية وقطر - في ذهابها إلى موقع متقدم في نصرة الثورة الشعبية بسوريا. ويشكر لدول الخليج أنها كانت رائدة في الدفع نحو تعظيم الدعم لقوى الثورة السورية في كل منعطف من منعطفات مسيرتها المتصاعدة، بدءا بالدعم الإعلامي والدبلوماسي، مرورا بالدعم الإغاثي والمادي، ووصولا إلى الإمداد المباشر وغير المباشر بالسلاح.

ولم تكن دول الخليج في خيارها الداعم للثورة غافلة عن مشاق هذا المسار، فهي صاحبة خبرة مباشرة وممتدة بطبيعة النظام الحاكم في دمشق وما يستبطنه من شراسة واستسهال للعنف المفرط كنهج للاحتفاظ بالسلطة المطلقة، ولو إلى حد التوحش من دون أي كابح أخلاقي. ويتصل بذلك أنه في المنطقة العربية خارج سوريا، استمرت مذبحة حماه (1982م) - لأسباب اجتماعية ومذهبية وحركية - حية في الذاكرة الجمعية الخليجية، ومكونا رئيسا للصورة الذهنية التي ينطلق منها الخليجيون، على مختلف مستوياتهم، عندما يطلون على النظام السوري.

وإذا كان الباعث الجيوسياسي لموقف دول الخليج الداعم للثورة السورية، من حيث الأهمية الحيوية لموقع «الصراع على سوريا» في خارطة المواجهة متعددة الجبهات والوسائل مع الخصم الاستراتيجي في طهران، واضحا بما لا يحتاج إلى إسهاب في هذا الحيز، يكفي للتدليل على واقعيته الإشارة إلى الاندفاع الإيراني في الدعم المباشر والمطلق لنظام الأسد واعتبار ديمومته مسألة تتصل مباشرة بمقتضيات الدفاع عن الأمن القومي الإيراني.

إلا أن المحفز الأخلاقي في الدعم الخليجي للثورة السورية ينبغي أ لا يغيب عن الأذهان، فالدعم الحكومي الخليجي للثورة السورية يقف على أرض صلبة من التأييد الشعبي الواسع، الذي ما فتئ بوسائله، يطالب حكوماته بعمل المزيد لنصرة الثوار السوريين. ويمكن القول، دون أدنى خشية من السقوط في المبالغة، إن الموقف الخليجي (السعودي - القطري على وجه الخصوص) يشكل مثالا ناجزا من منظور الخبرة السياسية الخارجية لدول الخليج لاكتمال التوافق بين الحسابات الجيوسياسية الباردة والعواطف الجماهيرية الجياشة.

وإذا كان النظام السوري قد التزم منذ البداية ما سماه بسمارك سياسة «الحديد والدم» - كناية عن الأولوية المطلقة للأداة العسكرية في حل الأزمات السياسية، مع الفارق النوعي أن «أب الوحدة الألمانية» كان يسعى من ورائها إلى توحيد الأمة الألمانية بأقصر فترة زمنية ممكنة - لم تجد دول الخليج بدا، بعد فترة تردد، من الدعوة إلى تسليح الثورة لتدافع عن نفسها، إذ تجلى، يوما تلو آخر، أن سياسة «الحديد والدم» الأسدية ماضية في استخدام القوة العارية حتى إن أدى ذلك إلى تمزيق سوريا جغرافيا واجتماعيا. وهكذا، أصبحنا شهودا مشدوهين لمفارقة تاريخية يقوم فيها زعيم أكبر حزب وحدوي عربي بقيادة أعنف عملية تفتيت لدولة ومجتمع عربيين! ولكن، رغم أن التوجه العام لدول الخليج في دعم الثورة السورية كان صائبا وأبرز قدرة ملحوظة على القيادة الإقليمية والحركة الدولية المؤثرة، فإنه لم يخل من بعض نقاط الضعف التي قللت من مردوده واعترضت زخمه. ولعل أهم نقاط الضعف هذه، التفاوت صعودا وهبوطا في زخم التنسيق حيال الأزمة السورية بين دول الخليج ذاتها، والتباين النسبي حول من يستحق من الثوار الدعم سياسيا وعسكريا، ونوع الدعم وتوقيته. ولا تنفصل نقطة الضعف هذه عن نقطة ضعف أخرى كشفتها الأزمة السورية، تتمثل في عجز الطرف الخليجي على جذب أصدقائه التقليديين في أوروبا والولايات المتحدة - الذين لطالما مثلوا عمقه الدبلوماسي - إلى التقدم مسافة أقرب إلى تأطيره للوضع السوري، والتخلي عن التردد الذي وصل حدا بات فيه من الصعب تمييزه عن اللامبالاة.

لقد كانت مرتفعة على الشعب السوري، وكذلك الدبلوماسية الخليجية وصورة الغرب في المنطقة، تكلفة هذه المواقف الأميركية - الأوروبية السلبية، التي ساهمت في التحقق الفعلي لنبوءات غربية ذاتية حول تجذر التطرف والطائفية على الأرض السورية. ولا شك في أن أحد مواطن ضعف الثورة السورية الرئيسة ينبع من تباين رؤى حلفائها الخارجيين وضعف إرادتهم، وهنا يمكن المجادلة أنه كان بإمكان الدبلوماسية الخليجية العمل أكثر على تخفيف وطأته. وفي المقابل، يستند النظام السوري إلى حلفاء أقل عددا وشأنا وفق المعايير العالمية للقوة، لكنهم كانوا وما زالوا أكثر إصرارا وتوحدا وجسارة في دعمه.

ومن جهة أخرى، كشفت الأزمة السورية عن أن الاستثمار السياسي والدبلوماسي الذي بدأته دول الخليج منذ سنوات عدة في بكين وموسكو لم يشفع لها في كسب هذه القوى إلى وجهة نظرها حول سبل التعامل مع الأزمة، بل في حالة موسكو لم يحد ذلك حتى من غلوائها في الانحياز التام للنظام السوري، الأمر الذي يستدعي مراجعة عاجلة ومعمقة لحدود العلاقات «الاستراتيجية» الخليجية مع روسيا والصين.

قصارى القول، إنه رغم النجاحات الدبلوماسية التي حققتها دول الخليج في حشد الدعم الإقليمي والدولي للثورة السورية، فإنها بقيت، وبمراحل، دون مستوى ملامسة ما أنجزته في مقاربتها للأزمة اليمنية في خلق إرادة دولية جامعة للقوى التي أعلنت تعاطفها وتأييدها لتطلعات الشعب اليمني في إسقاط النظام. ولا يخفف من أهمية نقطة الضعف هذه الفروق النوعية بين الحالتين اليمنية والسورية.

تقف سوريا اليوم مرتهنة لتوازن كارثي في القوى بين الثوار والنظام. وإذا كان النظام والقوى الإقليمية والدولية المتماهية معه والداعمة له قد جعلت من مسألة الحسم العسكري على الأرض أولوية قصوى سابقة على أي تسوية سياسية ممكنة، فلا مناص من أن تحزم القوى الداعمة للثورة أمرها بضرورة إسقاط النظام، وأن ترفع من درجة دعمها المادي والتسليحي، وجعل الموقفين الروسي والإيراني أعلى تكلفة لأصحابه، وتحييد الموقف الصيني.

إن أي حل سياسي نهائي للأزمة السورية، يتضمن الانتقال الفعلي للسلطة ويلبي تطلعات القوى الثائرة في سوريا، لا بد أن يسبقه على الأرض كسر لإرادة النظام في الاستمرار في القتال. وجميع البدائل اليوم صعبة في سوريا، والبلاد بفعل النظام وحلفائه تعيش كارثة محققة، لكن بقاء النظام أو استمرار حالة الكر والفر الراهنة لا يعنيان فعليا سوى الانزلاق سريعا نحو هاوية قد نكتشف، بعد فوات الأوان، أن لا قرار لها.

وإذا كان تاريخ ميلاد الدول أو تجددها لا يمران إلا عبر «منصة ذبح»، كما قدر هيغل ذات مرة، فلعل تاريخا جديدا ينبثق من حمام الدم المستمر في سوريا، بدايته خلع النظام المافيوي في دمشق، وفتح أفق جديد للسوريين. ولكن هذا لن يتحقق من دون تراص حلفاء الثورة السورية حول سياسة موحدة، قوامها العزم والحزم.

لن ينتج مؤتمر «جنيف 2» شيئا ذا معنى، فبشار الأسد وحلفاؤه أجهضوه في القصير قبل أن يولد، وكأنهم يصرخون في وجوهنا أن لغة «الصراع على سوريا» أضحت أكثر من أي وقت مضى، في هذه الأزمة الممتدة، هي لغة «الحديد والدم».

* أكاديمي وباحث سعودي، أستاذ للعلوم السياسية في معهد الدراسات الدبلوماسية بالرياض