... وهل تتوقع أن يكون للثورة ، بالذات في شقها «الجهادي» ، تداعيات سلبية على دول الخليج؟

لا- ..لأن الثقة كبيرة بقدرة الثورة السورية على لجم خطر «الجهاديين»

TT

المعروف أن دول الخليج العربية تتوخى في سياساتها الخارجية الحذر، بمعنى تحاشي التعجل والتهور، ومحاولة النأي بالنفس عن التدخل في الشؤون الداخلية للآخر. ومن هذا المنطلق، حرصت الدول الخليجية على أن تحافظ على شعرة معاوية مع نظام بشار الأسد، على أمل إقناعه بإيجاد حل سلمي لمأزقه مع شعبه التواق إلى الحرية والديمقراطية والعدالة.

غير أنه مع انتهاج النظام السوري نهجا عدوانيا صارخا، ولجوئه إلى العنف المفرط الذي لم يستثن شيخا أو طفلا، بشرا أو حجرا أو دار عبادة، لم تجد دول الخليج مفرا من اتخاذ مواقف أكثر صرامة تجاه هذا النظام المستهتر بكل القيم والشرائع والأعراف الدولية والإنسانية. وحتى في هذا السياق، رأينا كيف تدرجت مواقف أقطار الخليج، بمعنى أنها لم تعلن صراحة وقوفها مع ثورة الشعب السوري إلا بعدما طفح الكيل، وتبين أن الأسد وضع يده في يد نظام قمعي آخر هو النظام الإيراني وأتباعه من الجماعات الميليشاوية في العراق ولبنان ممن لا يخفى على أحد أجنداتهم التآمرية الخفية ضد دول الخليج وأنظمتها الشرعية.

بعبارة أخرى، فإن دمشق هي التي جنت على نفسها ودفعت دول مجلس التعاون دفعا نحو التصعيد ضدها، وإلا فإن علاقات الجانبين ظلت ودية ومتينة على مختلف الأصعدة منذ زمن الأسد الأب، بل إن دول الخليج، بقيادة المملكة العربية السعودية، لعبت في وقت من الأوقات دور «العراب» لصالح دمشق فيما يتعلق بإطلاق يد الأخيرة في الشأن اللبناني وبسط نفوذها على جارتها الصغيرة لأكثر من عقدين من الزمن.

لقد راهن الأسد الابن على إيران أكثر من أبيه، وتبنى بالتزامن لغة سوقية، خالية من الدبلوماسية والكياسة، تجاه أنظمة عربية خليجية لطالما قدمت له الدعم وأنقذته من الإفلاسين السياسي والاقتصادي، وذلك رغم علمه بما يحيكه النظام الفقهي الإيراني من مؤامرات ودسائس ضد الأنظمة الخليجية، بحسب ما جسدته تدخلاته في البحرين والكويت وشرق السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، دعك من تدخلاته الفجة في المناطق اليمنية المحاذية للحدود السعودية الجنوبية.

وفي ضوء هذه الحقائق، ما كان من دول مجلس التعاون إلا أن تحمي نفسها بالوقوف ضد الحلف الشيطاني المكون من مثلث «دمشق - طهران - حزب الله» عبر مساندة الشعب السوري في ثورته المظفرة.

وهنا، نأتي إلى السؤال المحوري وهو: «هل كانت دول الخليج تعلم، وهي تتخذ مثل هذا الموقف، أن الأمور في سوريا يمكن أن تبلغ وضعا يكون فيه أحد أركان الثورة السورية قوى وحركات (جهادية) متشددة من تلك التي تتبع فكر تنظيم القاعدة، وبالتالي، سيأتي يوم على دول الخليج تجد نفسها فيه ضحية لسياساتها ومواقفها هذه، بمعنى أن تكبر هذه القوى داخل سوريا، ثم تنطلق منها لاستهداف الأنظمة الخليجية؟».

الجواب، بطبيعة الحال، هو «لا»، إذ لم يكن أكثر المراقبين اطلاعا على خفايا الأمور، وقت تبني دول الخليج سياساتها المؤيدة للثورة السورية، يتوقع احتمال أن يتسلل رجال «القاعدة» وفكرها وسلاحها إلى سوريا ليصبحوا جزءا من الحراك الشعبي ضد نظام الأسد. واستطرادا لهذه النقطة، لا بد من توضيح أن انطلاق الثورة السورية كان سابقا لحسم الوضع في ليبيا لصالح الثائرين والمنتفضين ضد نظام العقيد القذافي. ذلك الحسم الذي يعزى إليه ظهور «الجهاديين» و«القاعديين» هناك مع أطنان من الأسلحة الخفيفة والثقيلة من تلك التي هـربت - بعد تفكيكها - مع أصحابها برا وبحرا إلى سوريا عبر تقديم الرشى المالية والعينية لقوات حرس الحدود، واستغلال أجواء الفوضى والانفلات الأمني التي أعقبت سقوط النظامين المصري والليبي.

وفي اعتقادي المتواضع، أنه حتى بعد كل ما حدث وتبين من انخراط الجماعات المتشددة، المنسجمة فكريا مع أفكار وأهداف تنظيم القاعدة، في الحراك السوري - وفي المقدمة منها «جبهة النصرة»، التي أعلنت على رؤوس الأشهاد انتماءها إلى فكر القاعدة التكفيري - فإن دول الخليج العربية لا ترى أنها أخطأت قراءة المشهد السوري، ولا تشعر بالندم. فهي فعلت ما كان يجب فعله حيال شعب عربي انتهكت حرماته بوحشية غير مسبوقة وتعرض لمظالم وعملية إبادة جماعية طائفية في ظل صمت دولي مستنكر، وبذلك تحاشت لعنة التاريخ التي ستصيب حتما كل من لم يرفع صوته ضد نظام الأسد، وكل من وقف معه مساندا أو مدافعا أو مبررا.

ويخشى بعض المراقبين اليوم من احتمالات أن يتنامى نفوذ تنظيم القاعدة وسطوته، بفعل ما يجري في سوريا، فيشكل ذلك تهديدا إضافيا لدول الخليج وأنظمتها. أي أن يتكرر «سيناريو» الجهاد الأفغاني الذي أغدقت عليه أموالا طائلة وزود بالرجال والعتاد، ليفرز لاحقا تنظيمات وحركات تعمل من أجل عض اليد التي أحسنت إليها. ومع أن مثل هذا الاحتمال قائم وتدعمه الأخبار القادمة من ميادين القتال في سوريا حول تصدر «التكفيريين» و«القاعديين» المشهد، فإن رهان صناع السياسة الخارجية الخليجية الآن هو على مدى قدرة الثورة السورية على إزالة الندوب والدمامل التي طفت على وجهها بفعل تسلل هؤلاء إلى صفوفها. ومثل هذا الرهان – في نظري – يستمد قوته من خصوصية سوريا.

سوريا ليست العراق ولا هي مصر أو تونس أو ليبيا.

وبكلام آخر، فإن تركيبة سوريا الإثنية، وتمدن شعبها، وتعلقه بالحياة العصرية، ومخزونها الثقافي التعددي - عوامل كفيلة بإحباط فرضية استيلاء «المتشددين» و«الجهاديين» على مقاليد أمورها في حقبة ما بعد سقوط نظام البعث الأسدي، رغم كل ما يقال في وسائل الإعلام عن دورهم المحوري في الصراع الدائر.

* أكاديمي بحريني في العلوم السياسية والباحث في الشؤون الآسيوية