هل الطموح الإيراني الإقليمي العامل الأساسي وراء رجحان كفة الراديكالية.. بالنسبة للشيعة في الخليج؟

نعم- نزعة التوسع الإيرانية كانت العنصر المحرك للراديكالية الشيعية في الخليج

TT

نعم بالتأكيد، دفع الطموح الإيراني للتوسع الإقليمي الذي تعاظمت قوته بعد انهيار نظام الشاه وقيام نظام الجمهورية الإسلامية إلى رجحان كفة الراديكالية في أوساط شيعة الخليج، بل إنه غالبا ما كان العنصر المحرّك لهذه الراديكالية التي كانت لها عواقب غير حميدة على المجتمعات الشيعية في هذه المنطقة.

في عام 1991، ثم في العام التالي، قُيّض لي أن أزور إيران في مهمتين صحافيتين دامت كل منهما عدة أسابيع وامتدت إلى عدة مدن وأقاليم. اثنان من الزملاء العراقيين كانا يعيشان في طهران قبل ذاك بما يزيد على عشر سنوات أعاناني في مقابلة البعض من القيادات الشيعية المعارضة لنظام صدام حسين. وعلى هامش ذلك أخذني أحدهما إلى «الوكر». هذا التعبير هو من «اختراعي» لوصف مكتب «حركات التحرّر» في العاصمة الإيرانية. وهذه الحركات هي جميعا إسلامية، أغلبها شيعي وما تبقى سني، وبين الأخير حركتا حماس والجهاد الإسلامي الفلسطينيتان. لم يقتصر الدعم الإيراني لهذه الحركات على تأمين مكاتب لها وملاذات لقيادييها المطاردين في بلدانهم وتقديم التأييد السياسي، بل كانت تتلقى عن طريق تلك المكاتب الدعم المالي وتسهيلات التدريب العسكري والتجهيز بالسلاح والعتاد. هذا الدعم هو في ظني ما شجّع تلك الحركات على سلوك درب التطرف، ومما مكّن إيران من الاحتفاظ بجذوة طموحها للتمدد نحو الإقليم على الرغم من عدم تحقيقها في نهاية المطاف الانتصار الذي عملت له طوال سنوات الحرب العراقية - الإيرانية.

أول حزب سياسي خالص للشيعة في التاريخ المعاصر هو حزب الدعوة الإسلامية الذي انطلق من النجف منتصف القرن الماضي. ولنحو عشرين سنة ظل الحزب ملتزما النهج السلمي (الدعوي) في نشاطه، حتى إنه رد على معارضة المرجعية الشيعية العليا وحوزة النجف لإنشائه بالقول إنه إنما يمارس صيغة من صيغ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أي إنه سعى على مدى عقدين من الزمن لأن يُعطي لنفسه صبغة دينية معتدلة أكثر منها سياسية، حتى إنه كان يدعو في تلك المرحلة إلى الاعتدال في ممارسة الشعائر الحسينية وتهذيبها من مظاهرها المتطرفة. لكن هذا الحزب سرعان ما تحول، مع انتصار الثورة الإيرانية، إلى حركة عنفية ونظّم عدة عمليات «فدائية»، منها محاولة قتل طارق عزيز في الجامعة المستنصرية ببغداد (1980) وتفجير السفارة العراقية في بيروت (1981) ومحاولة اغتيال أمير الكويت الراحل جابر الأحمد الصباح في عاصمة بلاده (1985). ومنذ نشوب الحرب العراقية الإيرانية وقف الحزب إلى جانب إيران، وشاركت تشكيلات مسلحة له، مع مثيلات لها لقوى شيعية عراقية أخرى، في القتال ضد القوات العراقية. بل إن الحزب اتخذ في ذلك الوقت قرارا بتبني نظرية ولاية الفقيه والاعتراف بمرجعية الزعيم الإيراني الخميني وتأييد المسعى الإيراني لإسقاط نظام صدام حسين، عادّا هذا خطوة مهمة في استراتيجية إقامة الدولة الإسلامية (الشيعية) التي تمتد إلى جنوب لبنان. وهذه بالطبع استراتيجية إيرانية لم تزل قائمة حتى اليوم.

لم تخف قيادة الثورة الإيرانية بزعامة الخميني هدفها في التوسع نحو الإقليم وأبعد، فـ«تصدير الثورة» كان الشعار الأثير للثورة وقيادتها. هذا الشعار الذي تُرجم على الأرض إلى دعم شامل، سياسي ودعائي ومادي، للحركات السياسية الشيعية خصوصا، عبر ذلك «الوكر» في طهران وعن طريق البعثات الإيرانية الخارجية، تبنته هذه الحركات أيضا وعملت على هديه بوصفه هدفا لها هي أيضا وواجبا شرعيا عليها.

وباستعراض تواريخ نشوء حركات الإسلام السياسي الشيعي في إقليم الخليج، والشرق الأوسط عموما، سنجد أنها جميعا، عدا الدعوة، قد انبثقت بعد الثورة الإيرانية بتأثير من أفكارها وبدعم مباشر من القيادة الثورية الإيرانية، بل إن عددا غير قليل منها نشأ داخل إيران ذاتها. ومعظم قيادات هذه الحركات عاش ودرس في إيران. وعلى غرار حزب الدعوة الإسلامية فإن أغلب هذه الحركات أعلن صراحة تأييده لولاية الفقيه ومرجعية الخميني، ومن أبرز هذه الحركات منظمة العمل الإسلامي العراقية (1979)، والجبهة الإسلامية لتحرير البحرين التي أعلن عنها في أواخر 1979 وعقدت أول مؤتمر لها في طهران في عام 1980 واتهمتها حكومة البحرين في العام التالي بتدبير محاولة انقلابية، وكذلك المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق الذي أنشئ في إيران أواخر عام 1982 ليكون مظلة للحركات السياسية الشيعية العراقية التي هاجرت قياداتها أو هُجّرت إلى إيران ابتداء من عام 1979. تقدم التجربة البحرينية، بالمقارنة مع التجربة الكويتية، أنموذجا لعواقب المنحى الراديكالي للحركات الشيعية المتناغمة مع نزعة التوسع الإيرانية نحو الإقليم. ومنذ سنة أخبرني أحد قادة المعارضة البحرينية أن تطرّف بعض الجماعات والشخصيات الشيعية وجهرها بالولاء لإيران ودعوتها لإنشاء نظام الجمهورية الإسلامية في هذه المملكة الخليجية، هو ما أجهض الحراك الشعبي الذي وجد في مرحلة من مراحله الاستجابة من العاهل البحريني، وحال دون قيام تفاهم بين المعارضة والنظام يحقق المطالب الرئيسة للمعارضة.

في المقابل فإن التزام الجماعات الشيعية في الكويت نهج الاعتدال هو ما عزّز من مواقع الشيعة في السلطتين التشريعية والتنفيذية في السنوات الأخيرة. والآن فإن الجماعة الشيعية الكويتية هي من العناصر القوية المؤثرة في الدولة وفي صناعة القرار السياسي الكويتي.

* كاتب وإعلامي عراقي