هل الطموح الإيراني الإقليمي العامل الأساسي وراء رجحان كفة الراديكالية.. بالنسبة للشيعة في الخليج؟

لا- .. التحريض بالتعبئة الخطابية والكلامية أسهم في إيجاد الذهنية الصِّدامية

TT

حينما نشير إلى الطموح الإيراني على أنه المُصدّر المباشر للراديكالية الشيعية في المنطقة فإن الفرد الشيعي بإمكانه تفنيد أي دعوى للتدخلات الإيرانية الفعلية في مفاصل يومياته أو فضاءات القرار من حوله. لأن الحضور الشيعي في دول الخليج لم يجرِ تسييسه وصبّه في قوالب جهوية، ونقله من الكُمون والانتظار السلبي «في زمن الغيبة» إلى مرحلة الفاعلية والحركية الصدامية، بطريقة ديناميكية واضحة المعالم يمكن الكشف على دوافعها بالمجهر أو القبض عليها باليد للباحث الموضوعي.

هذا ما يبرّر ما حواه تقرير محمود شريف بسيوني الذي تولى مهمة التحقيق والتقصّي في أحداث البحرين 2011، بأنه لم يجد ما يثبت تدخلا إيرانيا في انتفاضة البحرين. كما لن تجد أي لجنة تقصي وتحقيق ما يثبت ذلك في أي حراك شيعي في المنطقة، إنما جرى التحريض بالتعبئة الخطابية والكلامية المزدوجة التي شكلت بضخها الهائل الذهنية الصدامية والنفسية المؤثثة بالمظلومية المتطلعة للتمكين والنصر بعد أزمان من التهميش السياسي والاجتماعي والاقتصادي، الأمر الذي حدا بالفعل الانتفاضي لأن يبدو طبيعيا للمتلقي الشيعي الغائب عن طاولة اتخاذ القرار «المعتدل» أو «الراديكالي» الذي أزيح عن مقعد الإرادة مخلفا مكانه الطبيعي (للأعلم) من أصحاب الشأن عبر تراكمات طويلة المدى ومتعدّدة الأسباب ليس محل ذكرها الآن.

الإعلام الموجّه إلى العرب يُمثل الأهم في قنوات التحريض تلك التي جسّدت يوتيوبيا «المظلوم المؤيد من الله» كأنموذج معيش حرّك حماسة الشارع الشيعي لاستنساخ التجربة الإيرانية (انتصار ثورة الإمام الخميني) أو التجربة اللبنانية (حزب الله وانزياحه من مجرد نشاط تنظيمي مقاوم للاحتلال إلى حزب حركي يحكم ويستأثر بالحكم).

ثانيا: خطب عاشوراء والجُمع التي كانت تحمل في أبعادها ازدواجية فكرية. يمثل مفهوم المظلومية - والثأر كامتداد طبيعي له - وجهها الأول. بينما تمثل أخلاقيات التسامح والتعايش الوجه الآخر. تلك المزاوجة وفرت مناخا طبيعيا لإنبات صراع داخلي - ومجتمعي فيما بعد - أشبه بحالة فصام لا يمكن للذهنية الشيعية الثورية المزدوجة الأبعاد الاستبصار بها. حالة من تلبس الكمال وتمثل مبادئ السلام والتعايش، ينازعها احتقان ثوري وحسّ عدواني تجاه الآخر (الظالم والمستبد غالبا) بمنطلقات نصيّة تُشرعن الكراهيات ودوافع الصدام غرضها تجنّب وخزات الضمير ليسقط العقل الشيعي في مساحة ما بين شعارات الثأر والانتقام وإنعاش الكراهيات.. وبين التعايش والمُسالمة من جهة أخرى. وهذا، من دون أن ينتبه لغرابة المزاوجة تلك واستحالة توافقهما، لتضعه في مواجهة واقع يفرض عليه تلك الزعزعة ذات البعدين على أنها مكون طبيعي لأي نفس توّاقة إلى الحرية والكرامة، كما أرادت لها أن تكون تلك التيارات التي مَنطقت العنف وبرّرت الصدامية عبر خطاب مُحير يغذي المظلوميات ويتعكز على شعارات كربلاء.. من نبذ للظلم ومواجهة القوى المستبدة لشحن وتهييج العواطف.. مستحضرا في الجانب الشيعي «جيش الحسين» وفي الحكومات الخليجية «جيش يزيد» (!) وهو ما أضفى على أي معارضة سياسية هالة قداسة لا تقبل التشكيك بمنطلقاتها بأي حال.

إن ذلك «السيناريو» المعقّد في حبكة نشوء الذهنية الراديكالية في المنطقة يفسّر رجحان كفتها على خط الاعتدال الناشئ والخجول والمحارَب من قبل الغالبية المخطوفة الآن. كما هيأت الراديكالية لمفاهيم الاحتقار للشكوك والاعتراض. وتُهم كالانبطاحية والتعاطف مع الجلاّد والظالم - أي ما يعرف بـ«متلازمة استوكهولم» - لأن تكون الحاضن والحامي الشرس لتداعياتها على مشهد الصدام الآخذ في التمكين عبر تصاعد الطائفية الراهنة. مما يُركس أي محاولة للنهوض بالاعتدال الشيعي العقلاني والإنساني ويُجرمها، ذلك بسبب الاختلاف الجوهري بين مصالح الجانبين. فالاعتدال الشيعي المتمثل بمحاولات فردية شجاعة انطلقت من ثقافة التجديد وغربلة الموروث إلى وعي مضاد للأدلجة والتبعية، ما يزال تحت حصار الخط الراديكالي التعسّفي. كأنما الراديكالية الشيعية تتلقف كرة التهميش والعنف والإقصاء من توتاليتارية العدو المفترضة والتاريخية، ثم تعيد إرسالها في وجه أي محاولة لاسترداد القيم الإنسانية والتعايشية من متنوّري المذهب. إن ظاهرة اغتيال الفكر الاعتدالي الشيعي من الغالبية المُسيّسة ومع تزايد أعداد الفارين من قبضة الأدلجة تشير إلى انقسام فعلي بدأت ملامحه في التكوّن على وجه الخارطة الشيعية اليوم.

أما ما يخصّ واقع الشيعة في المملكة فهو حقيقة أن الاعتدال يخوض ما يشبه صراع وجود في تضاريس المجموع الشيعي المتعصّب والوعر. لكن هذا لا يغير من حقيقة رجحان كفة الراديكالية على حساب الاعتدال.

أملنا الوحيد هو الوعي والتنوير.

* كاتبة وإعلامية سعودية