.. وهل سيتمكّن الاعتدال الشيعي من الوقوف في وجه الراديكاليين؟

نعم- الاعتدال الشيعي.. مراجعة تفتح الطريق إلى المستقبل

TT

قبل انتصار الثورة الإسلامية في إيران كان المسلمون الشيعة، ولا سيما في العالم العربي، قريبين جدا من مواقع الاعتدال في الإسلام السنّي. وكانوا أيضا كسائر المواطنين، معتدلين ميالين إلى الاندماج في نظام المصالح العام في أوطانهم.. لا على أساس مذهبي وطائفي وإنما على أساس وطني يتلاءم والاندماج العام في تلك الأوطان. وكان تدينهم في كل وطن من أوطانهم تديّنا طبيعيا متسامحا من دون توظيف ذلك من أجل رفد حالات حزبية. عام 1979 انتصرت الثورة في إيران، وشهدت تعاطفا كبيرا. وتحوّلت إيران الخمينية بعد الثورة مباشرة إلى «مركزية إسلامية» شهدت شبه إجماعٍ، لكنه لم يدم طويلا قبل أن يتداعى وينفرط عقده، لأسباب كثيرة منها محاولة النظام الإيراني الجمع بين مشروعه السياسي الخاص، وبين مشروعه الإسلامي العام الذي كان يدّعي حمله، ومحاولة إجراء مطابقة بينهما.

جاء فقدان التعاطف الإسلامي العام مع النظام الإيراني ليرفع عن هذا النظام غطاء شرعيتين: الشرعية الإسلامية التي كانت تمنحه إياها الأمة، وبعض شرعية شيعية كان قد منحه إياها جزء كبير من الشيعة خارج إيران، بوصفهم جزءا من هذه الأمة، لا بوصفهم شيعة موالين لهذا النظام لكونه شيعيا.

هنا، بعد فقدان هذا النظام غطاء الأمة وشرعيتها، بدأ يعمل على محاولة تعويض الخسارة التي مني بها من خلال الاستحواذ على عموم الشيعة عبر ادعاء تمثيلهم وعبر إنتاج عقلية شيعية لا تتلقى سوى عقائد الاضطهاد ومشاهد المأساة. وبالتالي، جعل الشيعة مجموعة متوحِّدة تبحث عن كينونة خاصة بهم. لقد انصرف النظام الإيراني إلى بذل جهد استثنائي عبر توجيه ممارساته ورفدها بمواضيع نظرية جديدة، منها «حماية» الشيعة في العالمين العربي والإسلامي. وراح يعمل على إنشاء أذرع استراتيجية إحدى وظائفها جذب ولاءات من خارج حدوده الجغرافية.. ولاءات تحوّلت فيما بعد، إلى خزان لاجترار بدع أنتجها هو، من دون عرضها على المساءلة.

ونجح النظام الإيراني إلى حد ما في تنشيط حاسة إبداع مذهبية عند جمع من أرِبَّتِه نجحوا هم أيضا - بسبب دعم استثنائي من النظام المذكور - في صنع هويات ثقافية خاصة لنسبة معقولة من جمهور الشيعة.

طبعا، لا يستقيم السبيل إلى تعليق نجاحات النظام الإيراني في مشروعه هذا على أذرعته الاستراتيجية وحدها، وتبرئة الحكومات العربية والاجتماع العربي بشكل عام من مسؤولية غض نظر.. أسهم في إنجاح هذا المشروع عن قصد أو غير قصد. وأسهم بالتالي، في تذويب الاعتدال الشيعي الذي بقي موجودا حتى في عزّ اللحظة التي اعتُرف فيها بالنظام الإيراني وأرِبَّتِه كممثلين وحيدين للشيعة في أوطانهم. بمعنى آخر، فإن التطرّف الشيعي، بوصفه منتوجا إيرانيا توافرت له إمكانات الرعاية والاحتضان، وأصبح الممثل الوحيد للشيعة. وهذا عنصر ساهم إلى حد كبير في وضع الاعتدال الشيعي على مسلك شائك، أظهره لاحقا في مقام العاجز.. غير المقتدر على إزالة ما طرأ على بعض الاجتماع الشيعي من تأثير إيراني، والعاجز غير المقتدر على إشباع حاجة أساسية ملحة وضاغطة هي إعادة الشيعة إلى مواقعهم الطبيعية الوطنية والعربية. نروم من هذا السرد بناء صورة متكاملة نسبيا، تقودنا نحو التماس تبعات هذا الأمر ونتائجه على الشيعة في أوطانهم واندماجهم في مجتمعاتهم، إلا أن الذي يقارب ما تقدم في الأهمية، هو محاولة فهم الأسباب التي أنجبت إخفاق الاعتدال الشيعي.

هل يستطيع الاعتدال الشيعي، في ضوء ما تقدم، أن يواجه التطرّف الإيراني؟ ومن ثم، إعادة من شذّ عن الطريق من الشيعة إلى موقعهم الطبيعي في أوطانهم، وإقناعهم بأن مشروع «الدولة الوطنية» هو الأفق الوحيد لفاعليتهم والضامن الوحيد لمصالحهم وحقوقهم؟

جوابي: نعم، ثمة ثلاث حقائق لا مناص من أخذهم بلحاظ الاعتبار في معرض التوسّع في الإجابة عن السؤال الذي تقدم.

قبل انتصار «الثورة الإسلامية» في إيران كان الشيعة في أوطانهم مواطنين طبيعيين، تجمعهم مع نظرائهم من المواطنين وطنية نقية طبيعية تستقي أواصرها من الأحكام التي تضبط علاقتهم بعضهم ببعض، وتوليهم أمور اجتماعهم ومنازعاتهم. وخلال الفترة التي أعقبت «انتصار الثورة» - وتحديدا الفترة التي تلت انفراط عقد شبه الإجماع حولها - كان الشيعة من أول المدافعين عن أوطانهم في مقابل الهجمة الإيرانية. دفاع وصل إلى حد اتهام النظام الإيراني بأنه شبيه ذلك الذي في «إسرائيل». أما في المرحلة التي شهدت هجمة ثقافية استثنائية من النظام الإيراني، لم يكن ما صنعه بعض الشيعة بأنفسهم وأحوالهم وتعايشهم واجتماعهم وأحلافهم وعلاقاتهم، ثمرة أيديهم بل ثمرة من ثمرات تلك الغزوة الاستثنائية التي شنها النظام الإيراني.

إن الاعتدال الشيعي، بما هو تشيع نقي لم يتأثر بالغزوة الثقافية الإيرانية، وبما هو تشيع لم يميز نفسه يوما بأي تميز خاص، لكفيلٌ لا بترتيل عبارات الرفض والإنكار السياسية لمشروع النظام الإيراني فحسب، وإنما بمواجهته من خلال استراتيجية عمل تفكّك التعبئة الكبرى التي قام وما زال يقوم بها النظام المذكور ايضا. إلا أن نجاح هذا العمل مشروط بتوافر عوامل ثلاثة تكون بمثابة مساعد للاعتدال في إنجاز مهمته:

الأول، متعلق بدعم من المكوّن الأساسي الذي يتألف من «الاجتماع الوطني» في أكثر الدول العربية والإسلامية (المسلمين السنّة).

والثاني، متعلق بدعم حقيقي وجاد من حكومات تلك الدول.

والثالث، متعلق بالشيعة أنفسهم، أي متعلق بتضافر وتكاتف قوى الاعتدال (مرجعيات دينية ورجال دين ومثقفين ومدنيين) في كل وطن من أوطانهم واتفاقهم على آلية عمل مشتركة.

إن نجاح أي جهد مستقبلي برأينا مشروط بالذي تقدم، وهو جهد وعمل إن بدأ.. يملك أن يركب نموذجا جديدا - قديما من العلاقات القائمة على الاندماج المعافى، ويملك أن يركّب تلك العلاقات تركيبا صحيحا في الوعي يعيد هذا الوعي المفقود عند بعض الشيعة بقوة الأمر الواقع، وإعادة هذا البعض إلى الموقع الذي كانوا فيه، مواطنين أصيلين طبيعيين مندمجين يحملون ثقافة وطنية خالصة لا تخاطب الغريزة، ولا تقبل بخطاب أي مشروع مستورد.. بل تخاطب العقل والمنطق وتحيل كل الأمور إليهما.

*أكاديمي وباحث لبناني