.. وهل تؤيد تحرك القوات المسلحة، ولماذا؟

نعم- .. وسؤال المستقبل في مسألة الجماعة بعدما حاولت الإمساك بمفاصل الدولة

TT

سؤال المستقبل يضغط على أعصاب جماعة الإخوان المسلمين. خسرت السلطة بعد عام واحد من الصعود إليها، حاولت أن تمسك بمفاصل الدولة و«التكويش» عليها غير أنها أضاعت كل ما راكمت.

نفت لعقود طويلة العنف من قاموسها، فإذا بتصرفاتها تؤكد ما حاولت أن تنفيه.

لم تستوعب طبيعة الأزمة التي أفضت إلى إطاحتها من الحكم ودخلت في قطيعة مع مجتمعها لا مثيل لها منذ تأسيسها عام1928.

بعد 85 سنة من تأسيسها فإن حضورها على مسارح المستقبل بات بين قوسين كبيرين، فأزمتها هذه المرة مع مجتمعها، وفجوات الكراهية معها اتسعت بصورة تنذر بنهايتها، ونزوعها إلى العنف والتحريض عليه على ما يصرح قادتها يعمق أزمتها ويؤشر على انشقاقات محتملة في صفوفها بعد أن تطوي الأزمة الحالية صفحاتها.

أدارت جماعة الإخوان المسلمين أزمة إطاحة رجلها في القصر الجمهوري بالطريقة ذاتها التي جعلت من هذه الإطاحة مسألة محتمة. أنكرت الحقائق وعاندت معها. استهترت بالغضب الشعبي وأسبابه وأرجعته إلى نظريات المؤامرة، منسوبة إلى النظام السابق ورجاله ومصالحه وفساده والانقلاب العسكري على شرعيتها.

الكلام عن «انقلاب عسكري» فيه إنكار للمليونيات التي خرجت في مشاهد لا مثيل لها من حيث أحجامها في التاريخ الإنساني كله إذ ضمت نحو 33 مليون مواطن. وكان تدخّل الجيش لحسم الموقف إجراء ضروريا لمنع الاحتراب الأهلي وانهيار الدولة، وقد أزعجه أن يلوح الرئيس السابق محمد مرسي بالحرب الأهلية قبل عزله مباشرة، وأن يلخّص الشرعية في نفسه، ذكرها 74 مرة، دون أن يتيح لنفسه فرصة أن يفهم أن شرعيته تقوّضت، وأن الشرعية مسألة قبول عام.

في لحظات الحسم استبدت بالجماعة رهاناتها على الإدارة الأميركية والأدوار التي يمكن أن تتولاها في مسألتي فلسطين وسوريا وإعادة ترتيب أوراق المنطقة. اعتقدت أن الجيش لن ينضم إلى شعبه بضغط من «البنتاغون» مهما كانت أحجام التظاهرات والمخاطر، وعندما بدا السقوط محتما لم يكن لدى الجماعة ورجلها سوى التلويح بالاحتراب الأهلي لمنع هذا السقوط المحتم.

هناك الآن مساران رئيسان في حركة الجماعة إلى المستقبل.

أولهما، المسار الرئيس الذي تندفع فيه تصوّرات الجماعة وحركتها بعد خروجها من السلطة مباشرة. العنف مفهومة أسبابه، وقياداتها تعتقد أنها لن تعود إلى قصور الحكم مرة أخرى في أي مدى منظور أو متوسط. الرهان على العنف تكلفته المجتمعية باهظة وفيه انتحار تاريخي لأقدم التنظيمات الإسلامية وأكثرها إثارة للجدل.

تصرفت الجماعة كـ«ميليشيات عسكرية» على النحو الذي استخدمت فيه السلاح ضد مواطنيها ودخلت في مواجهات شوارع وحاولت ترويع المواطنين على النحو الذي يتضمنه شريط فيديو عن إلقاء شابين من فوق إحدى البنايات في منطقة سيدي جابر بالإسكندرية، قبل أن تحاول اقتحام الحرس الجمهوري بزعم تحرير الرئيس السابق من الأسر، رغم أن المعلومات تؤكد أنه قد نقل منه إلى وحدة عسكرية غير معلومة. وكانت العملية مقصودة وممنهجة لدفع الجيش إلى إطلاق رصاص وسقوط ضحايا وتلطيخ صورته ودعوة العالم إلى التدخل وإعادة استنساخ «السيناريو السوري» في الحد الأقصى أو رفع سقف الضغوطات والمقايضات في الحد الأدنى.

الرهانان خاسران، فما جرى في مصر ثورة شعبية حقيقية، ثورة جديدة مكملة ومصحّحة، والدولة بمؤسساتها السيادية والقضائية، فضلا عن الخارجية والإعلام، استعادت قوتها في وقت قياسي، والدولة هي الحقيقة الكبرى في التاريخ المصري الحديث.

أخطر ما قد يؤثر على مستقبل الجماعة أن تتصرّف كجماعة إرهابية، أو أن تتنكّر للوصف الذي أطلقه في النصف الثاني من الأربعينات مؤسسها حسن البنا على قتلة رئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي باشا: «ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين»..

وما صرح به الدكتور محمد البلتاجي من أن عمليات سيناء ضد أكمنة الجيش وضباطه لن تتوقف حتى يعود مرسي يؤكد صلات الرحم السياسي مع تنظيم القاعدة ويطرح التساؤلات عن حقيقة ما جرى في سيناء في قضية عودة الجنود السبعة المختطفين ومقتل 16 جنديا في رفح أثناء إفطار رمضان الماضي وعودة تخريب خطوط الغاز بعد سنة كاملة من توقفها.

وثانيهما، مسار محتمل على مدى أبعد نسبيا عندما تتأكد الجماعة أنها قد خسرت بأكثر مما قدرت، وأن قياداتها تصرفت على نحو حطم صورتها وعمق فجواتها مع شعبها، المراجعات تنذر بانشقاقات لكنها مؤجلة لوقت لاحق. تحت ضغط الأزمة الوجودية يصعب أن تكون الانشقاقات كبيرة، لكن بعدها ربما يطاح بالقيادة الحالية والمجيء بقيادة أخرى قادرة على التفاعل مع المعطيات الجديدة.

في سؤال المستقبل القريب فإن الجماعة قد تتعرّض لملاحقات قضائية عن جرائم بعضها موثق، مثل قضية الهروب من سجن وادي النطرون، بحسب حكم قضائي، أو التورط في العنف والتحريض عليه.. دولة القانون لا بد أن تؤكد حضورها لكن بلا تنكيل أو تشف، فالحق في محاكمة عادلة محك لصدق الانتماء إلى دولة القانون لا دولة تصفية الحسابات، والدم كله حرام على ما يقول المصريون.

الجماعة تنتظرها انتخابات نيابية بعد ستة أشهر وفق الإعلان الدستوري الجديد، ومن تقاليدها خوض الانتخابات أيا كانت الظروف المحيطة، لكنها هذه المرة يصعب أن تخوضها قبل أن توفق أوضاعها القانونية بحيث تكون «دعوية» لا شأن لها بالسياسة وأن تشرف الدولة بأجهزتها الرقابية على مصادر أموالها.

المقاطعة تعزلها والمشاركة تحرجها.

الجماعة من نسيج المجتمع المصري وليست دخيلة فيه، لكنها لا يمكن أن تستمر على النحو الذي كانت عليه، بلا توفيق أوضاع وبلا قطيعة مع خلط ما هو مقدس ديني بما هو متغير سياسي. والأهم أن تدرك أن العصر لا يسمح بتنظيمات شمولية تتصور أنها أقوى من شعوبها.. وهذا هو درس يونيو (حزيران) وثورته.

* كاتب ناصري مصري