هل أخفق النموذج التركي في مصر والمنطقة العربية؟

لا ... لأنه لم يطبّق أصلا، ولأن ثمة اختلافات بين ظروف تركيا والبلاد العربية

TT

لا أستطيع الحكم على فشل أو نجاح «النموذج التركي» في بلاد «الربيع العربي» لأنه لم يطبق فيها أصلا، بالإضافة إلى أنني أعتقد صعوبة تطبيقه في هذه البلاد للاختلاف الكبير بين الظروف التاريخية والاجتماعية بين تركيا والبلاد العربية، وأيضا لخصوصية التجربة العربية واختلافها عن مثيلتها التركية.

تركيا دولة علمانية بحسب دستورها، والجيش التركي يرى أن من واجبه حماية هذه العلمانية الأتاتوركية. ومن أجل ذلك قام بعدة انقلابات على المؤسسة الحاكمة كان آخرها انقلابه على الدكتور نجم الدين أربكان، الزعيم الروحي لأردوغان، كما أقدم هذا الجيش على إعدام الرئيس عدنان مندريس عام 1960م لأنه بزعمهم خرج على علمانية كمال أتاتورك.

هذا الواقع فرض على حزب العدالة والتنمية التركي الابتعاد عن الخطاب الديني المباشر والاعتماد على الخطاب القريب من الفهم العلماني لكي يكون مقبولا من المجتمع والجيش في وقت واحد. وهذا النوع من الخطاب أعطاه فرصة لكي ينجح وكانت مواءمة الحزب بين الإسلام والعلمانية والاقتصاد، والنجاح في ذلك، فرصة أخرى لنجاح الحزب واقتناع عامة الأتراك بمنهجه، وكل ذلك ما لم يتوفر للأحزاب المشابهة في البلاد العربية. بل إن واقع هذه الأحزاب وواقع دولها لا يمكنانها من استنساخ التجربة التركية على الإطلاق. ولقد اتضح بعض ذلك من خلال مقابلة تلفزيونية مع رجب طيب أردوغان في القاهرة، قال فيها: «إن المصريين سيقومون بالديمقراطية بشكل جيد وسيرون أن الدولة العلمانية لا تعني الدولة اللادينية، بل تعني احترام كل الأديان وإعطاء كل فرد الحرية في ممارسة دينه». هذا الفكر الأردوغاني لم يقابل بالترحيب من الإخوان المسلمين، إذ رد عليه الناطق باسمهم محمود غزلان قائلا: «إن تجارب الدول لا تُستنسَخ، وإن ظروف تركيا فرضت عليها التعامل بمفهوم الدولة العلمانية».. وهو محقّ في ذلك، فالدول العربية - ومنها مصر وتونس وليبيا - لم تشهد حربا بين الإسلام والعلمانية، بل إن دين هذه الدول هو الإسلام بحسب دساتيرها. صحيح إن هناك صراعا بين المنادين بتطبيق الإسلام بالكامل وبين من لا يريد ذلك، لكنه صراع خفي لا يصل إلى درجة ما هو موجود في تركيا قبل أردوغان. وحاليا، هناك نوع من التشابه بين الجيوش في دول «الربيع العربي» والجيش التركي. فـ«العسكر» هم مَن يحكم فعلا في مصر منذ عهد جمال عبد الناصر، وكذلك كان الوضع في ليبيا وتونس. وكان «العسكر» يملكون مؤسسات اقتصادية ضخمة تدار لحسابهم وحساب مواليهم ما جعل تخليهم عن الحكم أمرا في غاية الصعوبة.

أما في تركيا، فكان الجيش يحكم ولكن من وراء الستار. فالحكم المعلن للمدنيين أما الحكم الفعلي فلـ«العسكر»، والواقع كان يشهد بذلك دائما. وهذا ما يحاول فعله حاليا «العسكر» في مصر لدى البحث عن غطاء مدني. وهم بهذا يقتربون من التجربة التركية القديمة التي أصبحت ضعيفة حاليا بسبب قوة حزب أردوغان ووقوف غالبية الشعب معه، ما أضعف قوة الجيش وحدّ من طموحه في السيطرة الكاملة على مقدرات الأمور في تركيا. واعتقادي أنه لن يستسلم، وأن الصراع بين المؤسستين المدنية والعسكرية لن يتوقف تماما، لكنه قد يأخذ صورا مغايرة عما كان عليه قديما. ولعل مظاهرات ميدان تقسيم توحي بشيء من ذلك.

من ناحية أخرى، أعتقد أن تجربة تونس تقترب إلى حد ما من تجربة تركيا. فحركة النهضة لم تحاول السيطرة على كل أو معظم المناصب السيادية، إذ قبلت أن يتولى رئاسة الدولة رجل يُعدّ بعيدا عن الإسلام السياسي، وكذلك قبلت تعيين مَن لا ينتمون إلى فكرها في مناصب رفيعة أخرى. وهي عندي أكثر حكمة من الإخوان في مصر.

أما تجربة ليبيا فلها خصوصية تختلف عن خصوصية أخواتها في مصر وتونس. معمّر القذافي لم يبن مؤسسات مدنية حقيقية، وليس في ليبيا مقومات نهضوية حقيقية ولا بُنية أرضية تلبي احتياجات المواطنين، وفوق هذا كله فإن القبيلة - غالبا - هي التي تشكل النسيج الاجتماعي. ولهذا نشأت في ليبيا مشاكل تختلف عن مثيلاتها في تونس ومصر، وأعتقد أنها بحاجة إلى وقت أطول لحلها ولكن قد يساعد الليبيين وجود الثروة عندهم وهي ما تفتقدها مصر وتونس.

الأحزاب الإسلامية العربية، بتركيبتها المتنوعة، أرادت تقليد الأسلوب العلماني في الوصول إلى الحكم أو المشاركة فيه بصورة فاعلة، بينما حزب العدالة والتنمية التركي المنغمس في الأجواء العلمانية أراد أن يخفف من هذه القيود ليقترب من تطبيق الإسلام أو بعضه وتحت الغطاء العلماني. وهذا هو الفرق بين الواقعين العربي والتركي، بالإضافة إلى أن حزب التنمية والعدالة التركي أخذ وقتا كافيا لكي يحقق بعض أهدافه، خاصة الاقتصادية التي تهم القطاع الأكبر من المواطنين، وهذا ما لم يتيسّر للأحزاب العربية.

النموذج التركي له خصوصيته، وكذلك النموذج العربي، ولكن هناك فرقا كبيرا بين الخصوصيتين، وهذا ما يجعل تطبيق أحدهما في مكان الآخر مستحيلا.

* أكاديمي وباحث سعودي