وهل خسر رجب طيب أردوغان رهانه إقليميا؟

نعم ... وأبرز الأسباب توهّمه تمثيل الأمة كلها.. والانطلاق من قاعدة متجانسة

TT

كان بإمكان أي متابع للتلفزيون التركي خلال الشهر المنقضي التخمين أن محمد مرسي، الرئيس المصري المعزول، مواطن تركي. فحتى القنوات الإخبارية، التي دأبت إبان الاحتجاجات التركية الأخيرة على عرض برامج وثائقية عن حياة الحيوانات البرية، حرصت على بث برامج حوارية وسجالات ساخنة حول ما يدور في مصر على الضفة المقابلة من البحر المتوسط.

المعلّقون المؤيدون للحكومة التركية اختاروا التكلم عن مقارنة «اللعبة الانقلابية» - وأي من تدخلات «العسكر» التركي يشابه ما حدث في مصر؟ أهو تدخل 1960 أم 1971 أم 1980 أم 1997؟ (في اعتقاد وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو الإجابة هي 1997). وكان من نصيب أي مجازف بالتشكيك في صحة المقارنة، ولو تلميحا، التعرض لتهم طأطأة الرأس أمام الطغيان.

دوائر الحكم في تركيا تخشى حقا انتقال عدوى ما حدث في مصر إلى تركيا. وفي المقابل، تأمل جموع العلمانيين والراديكاليين الأتراك من دون شك في حدوث ذلك.

لكن الحقيقة أن خطوط التوازي بين حالتي البلدين تبقى هشّة. فحزب العدالة والتنمية التركي كان دائما ظاهرة استثنائية، على الرغم من كل الكلام - حتى الفترة الأخيرة - في الإعلام الغربي عن كونها نموذجا ديمقراطيا لمنطقة الشرق الأوسط. وكذلك، حتى سقوط التجربة، هكذا كانت النظرة إلى «إخوانيي» محمد مرسي. غير أن هذا لا يعني أن الانقلابات ما عادت واردة تقريبا في تركيا اليوم، أو أن الاقتصاد التركي ماضٍ في طريق النمو بينما تترنح مصر مقتربة من شفير الإفلاس.

الفارق الأساسي هو أن رجب طيب أردوغان يتمتع بـ«كاريزما» ودهاء يكاد مرسي يفتقر إليهما تماما. ومع هذا، هناك عنصر بالغ الأهمية يجمع بين الرجلين بالإضافة طبعا إلى الإرث العقائدي، هو التشابه البنيوي للتنظيمين السياسيين اللذين يقودان. فعلى غرار الإخوان المسلمين، تستند قاعدة أردوغان السياسية في قوتها إلى شبكتها المتجذرة الشديدة الترابط والتراتبية. ولقد أسهم وجود التنظيم في المعارضة في إكسابه ميزة المرونة الفائقة، التي أتاحت له إعادة لملمة شتاته بسرعة في أعقاب إزاحته عن السلطة عام 1997 في انقلاب عسكري. ونجح في تجاوز التحديات وجابه بنجاح محاولات «العسكر» والقضاء لإبعاده عامي 2003 و2008.

إلا أن الميزات ذاتها التي قوّت سواعد حزب العدالة والتنمية التركي في الماضي تحرمه اليوم من أفضلية التفاهم الشعبي العريض الذي حازه عندما نجح في تولي الحكم. فلقد اعتمدت «كاريزما» أردوغان السياسية كثيرا على وجود أعداء يناوئونه، وحقا مكّن هؤلاء الأعداء أردوغان لتبرير إحكامه قبضته على جهاز حزبه. وفي البداية كان العدو المباشر قوى «المؤسسة الكمالية» (الأتاتوركية). ومن ثم، بعد تغلبه على الجيش، صارت العدو إسرائيل. أما اليوم بينما يتمتع بأقوى مكانة بلغها، غدا العدو «العالم» ونصف شعبه. ولمن أصغى لكلامه منذ احتجاجات الشوارع التي تفجرت - من ميدان تقسيم بإسطنبول - في مايو (أيار) الماضي يلحظ أنه يشبه نبرة سان جوست، فيلسوف «عهد الإرهاب» إبان الثورة الفرنسية، في قوله «بما أن الشعب عبر عن إرادته، تغدو أي معارضة خارجة على السلطة، وكل خارج على السلطة.. عدو». إنه يقول «لقد حصلت على أكثر من نصف مجموع الأصوات، وبناء عليه، أصبحت أنا الأمة».

التداعيات الداخلية لرؤية من هذا النوع، يتجسّد فيها التجانس الاجتماعي الكامل، بديهية. هنا نحن أمام حالة لا يبقى فيها المجتمع مجتمعا بل يصبح ثكنة. وبالنسبة للسيد أردوغان، حيث توجد مؤشرات لتأثير هذه التداعيات على رؤيته للعالم الأوسع، وانسحبت سلبيا على المشهد الإقليمي فأضعفت جديا نزوعه إلى الزعامة الإقليمية.

خلال السنوات الأولى لتولي أردوغان الحكم في تركيا، كان بين أبرز المبادئ التي سار على هديها وزير خارجيته في سياسته الخارجية مبدأ «صفر مشاكل مع الجيران». وبطريقة أو بأخرى يجوز المجادلة بأن هذا المبدأ - أو الشعار - لا يختلف كثيرا عن أشهر عبارة ارتبطت بالسياسة الخارجية التركية، أي عبارة مصطفى كمال «أتاتورك» التي تقول «سلام داخل الوطن وسلام في العالم». (وهنا يظهر الشعاران، لدى التفكير مليّا بهما، يعكسان المواقف الحذرة المألوفة، أو المرتقبة، من زعماء جدد وأنظمة حكم ما زالت طرية العود). إلا أن ذلك المبدأ يناسب تخلّي تركيا عن مقاربتها المحافظة التقليدية لمحيطها الإقليمي الأوسع وتبنّيها مقاربة أكثر إيجابية وتفاعلا، وهذا أيضا كان تطورا له وقعه الطيب في الغرب.

ولكن، تدريجيا، بالتوازي مع صعود أردوغان وتزايد سطوته داخل تركيا، أخذ ادعاء حكومته لنفسها دور «الأخ الأكبر العملي» الحصيف في المنطقة، والوسيط بين إسرائيل وفلسطين، بل حتى الساعي إلى السلام مع أرمينيا، يتحوّل إلى ظاهرة سياسية آيديولوجية. فقد ضعف نفوذ أنقرة المحدود أصلا في مجال السعي لتسوية القضية الفلسطينية نتيجة دعمها القوي لحركة حماس. وكذلك اختلفت مع الحكومة العراقية لمساندتها طارق الهاشمي، ولعلها اليوم تعمّ الجماعات الراديكالية السَّلفية ضد الأكراد في سوريا. وأخيرا وليس آخرا، غضبت كثيرا لسقوط الإخوان المسلمين في مصر بينما كانت بعض أهم العواصم العربية فرحة علانية لسقوطهم.

خطيئة أردوغان أنه سمح لنفسه بأن يسقط ضحية خطابه الداخلي الملتهب عن كونه «صوت الشعب»، و«روح الأناضول»، و«البطل المنتظر منذ زمن للقيم التركية والإسلامية»، والادعاء بأنه ينطق باسم كتلة بشرية متجانسة تماما.

الحقيقة ليست كذلك أبدا. فقاعدة تأييده الشعبي ليست متجانسة، وتركيا نفسها ليست كذلك. أما بما يخص العالم السنّي العربي الأوسع، فإن الصورة أسوأ بكثير.

صحيح أن الساسة الإسلاميين، على شاكلة السيد أردوغان، ما تمتعوا يوما بالقوة التي يتمتعون بها اليوم. وهم استفادوا من الشعور بالاضطهاد وذهنية الثكنات إبان السنوات التي كانوا فيها معارضين. ولكن إذا قيض للمنطقة أن تخرج من دوامة الانقلابات والانقلابات المضادة، ومن تسلّط علماني يعقبه تسلط إسلامي، يتوجّب عليهم اليوم إيجاد بديل أكثر تقدّما وتعقيدا.

* كاتب وصحافي خبير بالشؤون التركية، عمل مع «واشنطن بوست» و«الغارديان» ومجلة «تايم»، ولـ«التايمز» و«وول ستريت جورنال».