هل يجوز اعتبار مَن يخرجون على أوامر مكتب الإرشاد في تنظيم، كالإخوان المسلمين خارجين عن فكرة التنظيم نفسه؟

نعم - ... الانقسام المتوهم لا مجال له في الجماعة

TT

سؤال بديهي تثيره الاحداث الجارية في مصر الآن ومراهنة الانقلابيين وداعميهم في الداخل والخارج على تفتيت الجبهة المعارضة للانقلاب على «ثورة 25 يناير» وعلى المسار الديمقراطي الوليد في مصر وأول ممارسة ديمقراطية للشعب المصري في اختيار من يحكمه وإقرار الدستور الذي ينظم حياته بملء إرادته.

وبرغم الآلاف من الرسائل والدراسات التي تناولت وتتناول جماعة الإخوان المسلمين منذ نشأتها، وخلال أكثر من 85 سنة من عمرها، فمن الغريب ان يبني الاخرون حلول ازماتهم و مشاكلهم على ايجاد ازمة داخل صف الجماعة، وتكون هذه الازمة تحت عنوان «الإنقسام»، وان يأتي هذا التوقع في وجود ازمة تعيشها مصر والعالم العربي بل والعالم كله.

وكماهي العادة فجماعة الإخوان المسلمين بفكرها وتاريخها وأشخاصها هي المجني عليها دائما وهي التي تقف على إخدود النار بين خيارين: فإنما أن تلقي بنفسها وبإرادتها في النار أو يقوم الأخرون بدفعها ثم ولتتحمل هي مسئولية هذا الدفع، كما رسمته صورة بكائية هذا الأسبوع، عندما قامت الشركة بتسليم جثمان أحد شهداء رصاصات الحيش إلى ذويه مع مطالبة الأسرة بدفع مبلغ 1000 جنيه مصري كرسم محدد لعملية التسليم.

لا نقول أن جماعة الإخوان المسلمين معصومة مما يصيب الجماعات من أزمات، ولكن ما يغفله الدارسون للجماعة أن تكوينها الفكري والأخلاقي والتربوي مع التنظيم الإداري الدقيق هي العوامل–بعد إذن الله–التي جنبت الجماعة الكثير مما يصيب الجماعة والهيئات الأخرى وباختصار شديد يمكن أن نشير إلى أهم نقاطها:

أولا : أن الجماعة عندما قامت، لم تقم كمسجد  ضرار تنافس فيه أي جماعة أخرى . والتاريخ يشهد أن الإمام الشهيد حسن البنا بذل أقصى جهده لدى العلماء والجماعات في زمنه ليتبنى أحدهم منهج الإسلام الشامل لكل مناحي الحياة ويكون هو تابعا له ولكنه لم يجد استجابة من أحد بل وكان يقابل أحيانا باستخفاف وباستنكار لفهمه للإسلام فلم يبقى أمامه ومن امن معه بفكره وناصره من ضعفاء القوم إلا الأخذ بأمانة الدين مستعينين بالله وحده.

ثانيا: أن حسن البنا لم يعط لنفسه أبدا صفة الزعامة التي كانت لزعامات الهيئات والأحزاب في زمانه وفرض لقب المرشد وصفته لمن يتولى قيادة الجماعة محييا في نفوس الأفراد التبعية فقط لنبي الإسلام ورسوله (صلى الله عليه وسلم) وكان الهتاف المشهور الذي يتضمن الرسول زعيمنا و الرسول قدوتنا، وجاعلا من شروط البيعة للانضمام للجماعة و التي أوردها في رسالة التعاليم أن لا يعتقد بشر حتى ولو كان قائدا محبوبا مطاعا في جماعة أنه معصوم، حيث يبايع الأخ أو الأخت على فهم أن «كل أحد يؤخذ من كلامه ويرد إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم.....»، وما يتغافله الدارسون للجماعة وتاريخها أنه لم يحدث إطلاقا طوال حياة الإمام المؤسس أن هتف أحد باسمه رغم أن الأعراف وقتها كان الهتاف بحياة الزعماء أمرا طبيعيا، وحسن البنا نفسه الذي قال عندما لامس حماسا من بعض إخوانه وتلاميذه في أحد المؤتمرات وهم أحدهم بترديد ما يقوله أتباع الأحزاب بزعمائهم بقوله «يحيا حسن البنا» فأنهى اللقاء فورا وقال: إن يوما يهتف فيه باسم حسن البنا لن يكون...وكان درسا عمليا لجماعته وتلاميذه يبقي طوال حياة الجماعة.

ثالثا: أن الجماعة لم تقم كاتحاد فصائل أو طوائف أو تجمع مشائخ، والأصل في الالتحاق بها أن يكون في صفة فردية تجنبا للعصبية العرقية أو الإقليمية أو الفكرية، وكما جاء في رسالة المؤتمر الخامس تأصيلا لهذا المعنى: أن من خصائص دعوة الاخوان البعد عن هيمنة الأعيان و الكبراء، والبعد عن الأحزاب والهيئات.

رابعا: يسير نهج الجماعة على أن يمر الفرد بمراحل تنمو فيها لديه روح الأخوة الإسلامية التي تربطه باخوانه في الصف عن طريق برامج التربية ومحاضنها كالأسر التي تعمل علي تقوية الصف بالتعارف ، وتمازج النفوس والأرواح، ومقاومة العادات و المألوفات، والمران على حسن الصلة بالله تبارك وتعالى واستمداد النصر منه، وهو ما عناه الإمام الشهيد عليه رحمة الله بالعناية بالتكوين والتدرج في الخطوات.

... و إضافة إلى تركيز فكر الجماعة على الوسطية واحترام الاخر المخالف للفكر والتوجه، فقد جاءت المحن المبكرة لتكون علامة من علامات جماعة الاخوان المسلمين وإحدى خطوات طريقها، فأصبح المقبلون عليها يدركون قبل الالتحاق بها أن العمل مع الجماعة ليس نزهة أو رفاهية، بل هو عمل فيه تضحيات و تبعات مما زاد في تعميق فكرها لدى المقبلين عليها، وبإحساس الجميع بمسئوليته تجاه جماعته الذي لايقل عن مسئولية من هم في أول الصف بعد أن رأوا أن من يتقدم الصف في كل المحن يناله من تبعات العمل الأكثر والأشد مما يناله من هم في مؤخرة الصفوف.

و مع كل ذلك فقد عرف تاريخ الجماعة عدة أزمات كان من هم خارجها يراهنون في كل ازمة على أنه سيتبعها انشقاق، وهو مالم يحدث بفضل الله عزوجل أولا،ولما أوردناه و غيره من مناخ جامع للصف داخل الجماعة ربما لم تحظ به جماعة أو هيئة أخرى.

وأول هذه الأزمات هي استقالة الأستاذ أحمد السكري–يرحمه الله – و الذي كان وكيل الجماعة و أول من عمل مع الإمام البنا في تنشئتها،ثم كان انفصال مجموعة أطلقت على نفسها مسمى (شباب محمد) الذين عابوا علي المرشد و الجماعة بطىء خطواتهم و تعامل معهم الإمام نفسه بمنتهى الأدب الاسلامي و الخلق الراقي وسلم لهم المجلة التي كانت تصدرها الجماعة ثم جاءت الأزمة الكبرى مع الانقلاب العسكري عام 1952 و كانت من أشد الأزمات باعتبار أن بعض الضباط كانوا منتسبين للجماعة و أن الجماعة نفسها قد ساهمت في إنجاح حركة الجيش، وتصور الكثيرون أن الجماعة مع ما حل عليها من تنكيل شديد و طويل على أيديهم قد انتهت و أن فكرها لم يعد له وجود أمام المد القومي و الإشتراكي وغيرهما، ومع ذلك فقد بقى الجسم الأكبر من الجماعة صامدا رغم خروج بعض الأفراد عليها.

ولحق بأزمة عام 1952 أزمة النظام الخاص الذي أنشأه الإمام البنا في الأربعينيات من القرن الماضي لمقاومة المحتل و كان من أعضائه بعض ضباط 1952، ثم رأت الجماعة في عهد خلفه الأستاذ حسن الهضيبي – يرحمه الله – أن الهدف من قيام هذا التشكيل قد انتهى وهو مالم يتقبله بعض أعضاء هذا التنظيم مدعومين من النظام الحاكم وقتها لشق الصف و حاولوا إجبار المرشد علي الاستقالة و حدث ما يمكن تسميته بالانقلاب العسكري حينما احتلوا المركز العام للجماعة وحاصروا الأستاذ المرشد في بيته ولكن كيان الجماعة الكبير ولحمة الصف مع الفهم والالتفاف حول القيادة أفسد هذه المحاولة التي راهن عليها العسكر كثيرا في وقتها.

وجاءت أزمة التكفير التي نشأت في السجون في الستينيات من القرن الماضي وكادت أن تكون عاصفة حقيقية ليس للجماعة فقط وإنما للإسلام الوسطي ككل بعد أن حمل بعض الأفراد كلام الشهيد سيد قطب بما لا يحتمله لا من فهم ولا تأويل وكان حزم المرشد الثاني عليه رحمة الله انحيازا للفكر الصحيح دون محاباة لأحد ممن عاشوا محن السجون والتعذيب والتغييب سنوات طويلة، فالحق أحق أن يتبع بعيدا عن المجاملة أو المداهنة، وانتهت الأزمة بخسائر قليلة في الأفراد وبعضهم كان صاحب سبق وجهاد، وبقيت الجماعة بفضل صامدة بفكرها و تلاحمها.

و اليوم ومصر كلها تمر بأزمة جديدة من فعل عسكرانقلابيون ويكاد الخندق الملىء بالنار أن يقام لتقف الجماعة من جديد و على حافته، أما التفريط في فكرها و ثوابت العمل الوطني أو الانقسام،فاليبقين الذي لا يتزحزح ثقة بالله عزوجل ثم بتلاحم الصف،و باختصار جديد نؤكد أن خروج بعض الأفراد حديثا مهما علا صوتهم لن يكون له أي أثر كما كان قديما فهي أغصان سرعان ما تجف في يدي من انتزعها،ورهان البعض على أن تنقسم الجماعة لن يكون، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

 لقد عاشت الجماعة عهوداً متكاملة وأزمنة عديدة بفضل من الله في ظل قوله تعالى « واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا»، وعاشوا في ظل دعوتهم المباركة على قيم ومعاني الانتماء الصافي والطاعة الواعية المبصرة والثقة المتبادلة والأخوة الصادقة، وتربوا على ذلك ، فعاشوا لدعوتهم وبها في ظل إطار تنظيمي محكم البناء عميق الانتماء كثير العطاء ، الكل يحرص على أن يكون ضمن تلك العصبة المؤمنة ، يجمعهم الرابط التنظيمي المتمثل في أركان ثلاثة( الطاعة والأخوة والثقة) لا يحيدون عنها قيد أنملة، فكان الإنتماء التنظيمي لدعوة الإخوان :

 1- طاعة مبصرة منطلقة من الإيمان شعارها « قوم يرون الحق نصر أميرهم .. ويرون طاعة أمره إيماناً» 2- أخوة صادقة تسمو فوق آواصر الانتماء الضيقة المحدودة .

3- ثقة عالية لا تضعف أمام محن الشهوات والشبهات.

ومما يسقط أحلام الواهمين، أن الجماعة تستقي دائما مواقفها من الآلية الربانية في اتخاذ القرار واقرار التوجهات التي نصت عليها مرجعيتهم – القرآن والسنة – فألزموا أنفسهم بالشورى ، يقول فضيلة الأستاذ المرشد محمد مهدي عاكف–أنه إذا لم تكن الشورى مُطَبَّقةً داخل جماعة الإخوان المسلمون لَمَا استمرت على الساحتين المحلية والدولية حتى الآن، وأن الشورى لدى الجماعة فرضٌ وخُلقٌ، ولا يوجد مؤسسة داخل الإخوان تستطيع أن تتحرك دون تطبيق مبدأ الشورى ، وإنَّ كثيرًا من الأفكار والجماعات قد اندثرت لغياب الشورى عنها ،  وما تتكسر عليه كل تمنيات الآخر المتحامل ، تلك الرابطة الأخوية الصادقة، فقد تعلم الإخوان ولا زالوا من كلام الإمام المؤسس حسن البنا رحمه الله : «وأريد بالأخوة : أن ترتبط القلوبُ والأرواحُ برباط العقيدة، والعقيدة أوثق الروابطِ وأغلاها، والأخوَّة أخت الإيمان، والتفرُّقُ أخو الكفر، وأول القوة قوة الوحدة، ولا وِحْدَةَ بغير حب، وأقل الحب سلامة الصدر، وأعلاه مرتبة الإيثار ?وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ?(الحشر: من الآية 9) .. والأخُ الصادقُ يرى إخوانَه أوْلى بنفسِه من نفسه؛ لأنه إن لم يكن بهم فلن يكونَ بغيرهم، وهم إن لم يكونوا به كانوا بغيره.

 هذه هي دعوة الإخوان لمن لم يعرفها جيداً، ولمن لم يقف على أعتابها، ولمن لم يدرك حقيقتها، هكذا هم الإخوان كانوا وسيظلون زمرة القلب الواحد، قد يقول قائل هذه مثالية، ولكننا نعتقدها حقيقة في دعوة الإخوان، ونختم بما قاله المؤسس رحمه الله « فاذكروا جيداً أيها الاخوة، أنكم الغرباء الذين يصلحون عند فساد الناس، وأنكم العقل الجديد الذي يريد الله أن يفرق به بين الحق والباطل في وقت التبس عليها فيه الحق بالباطل، وأنكم دعاة الإسلام، وحملة القرآن، وصلة الأرض بالسماء، وورثه محمدصلى الله عليه وسلم،وخلفاء صحابته من بعده، فضلت دعوتكم الدعوات، وسمت غايتكم علي الغايات، واستندتم إلى ركن شديد، واستمسكتم بعروة وثقي لا انفصام له، وأخذتم بنور مبين وقد التبست علي الناس المسالك وضلوا سواء السبيل، والله غالب على أمره» والله أكبر ولله الحمد».