هل يجوز اعتبار مَن يخرجون على أوامر مكتب الإرشاد في تنظيم، كالإخوان المسلمين خارجين عن فكرة التنظيم نفسه؟

لا - ... «الإخوان المسلمون» تنظيم مدني يقوم على قواعد العمل السياسي الحديث

TT

يتحدث بعض المثقفين عن جماعة الإخوان المسلمين منطلقا من تصورات ذاتية مسبقة أو حالمة تسعى إلى تصوير الجماعة كمؤسسة ماضوية من مؤسسات القرون البعيدة.

الحقيقة أن «جماعة الإخوان المسلمين» تنظيم مدني يقوم على قواعد العمل السياسي الحديث أكثر مما يتوفر لكثير من البنى السياسية في عالمنا العربي، وقواعدها وكوادرها وقياداتها من أكثر النخب العربية تأهيلا علميا وأكاديميا.ويقوم تنظيم الجماعة على قواعد محددة يوضحها نظام داخلي متوافق عليه بطريقة شورية أو ديمقراطية إلى أبعد الحدود. «نظام داخلي» يحدد الأدوار والمسؤوليات وطرائق اتخاذ القرار، لتبقى الشورى الملزمة في كل وحدة من وحدات التنظيم هي القاعدة الأساسية التي يحتكم إليها الجميع.

من هنا يتضح أن مفهوم «السمع والطاعة»، الذي يردده البعض دائما، لا يعني حالة من الخضوع المطلق في العلاقة مع شيخ تقوم على قاعدة «ما أفلح مريد قال لشيخه لمَ؟». إن الحب والاحترام والعلاقة الأخوية لا تلغي حقوق الأفراد في الحوار وفي النقاش. وحتى حين يصدر القرار الجماعي يبقى شرط الإخوان المسلمين في كل نصوص بيعتهم: أن الطاعة في المعروف. وأن الطاعة المبصرة لا العمياء هي أساس الالتزام.

في أي وحدة للقرار هنا رجال أكفاء يتشاورون ويتحاورون فيتفقون أو يختلفون، ويحسم التصويت خلافاتهم فيلتزمون، وأحيانا يتململون لكنهم يلتزمون. ومن خلال هذا الحوار والاختلاف يكون التطور العملي في أفكار الجماعة وفي مواقفها وسياساتها.

صحيح أن عمر الجماعة السياسي اليوم أكثر من ثمانية عقود، ولكن أحدا لا يستطيع أن يقول إنها تعيد «طرح الأفكار نفسها باللغة نفسها»، التي كانت تتحدث بها في ثلاثينات أو أربعينات القرن الـ20.

وهذا يسلمنا إلى التساؤل: هل كانت الجماعة تاريخيا محصنة ضد فيروس الانقسام أو الانشقاق أو الخسارة في الرجال والأفراد؟! بنظرة عامة متفائلة قد يقول البعض: «نعم»، معتمدا حساب السلامة في لحظة النهاية، إلا أننا بنظرة متفحصة تاريخية سنحصل على غير هذا الجواب. فالواقع يخبرنا أن بعض المؤسسين في مصر تخلوا عن الإمام حسن البنا (رحمه الله) منذ أول الطريق. ونستمع إليه منذ المؤتمر الخامس يشكو من «المتعجلين»، ليقول قبل استشهاده عن البعض إنهم «ليسوا (إخوانا) وليسوا مسلمين».

وفي الخمسينات والستينات في مصر تابعنا في المشهد المصري بروز ظواهر خطيرة لا نستطيع إلا أن نصنفها على أنها شكل من أشكال التمرد على فكر الجماعة ومواقفها. ولتكون الظاهرة الأوضح في شخص كاتب في حجم سيد قطب (رحمه الله)، الذي فرض فكره على واقع الجماعة، والذي لا تزال تهادنه تارة، وتتملص من تبعاته أخرى.

في الأيام التي نعيش، لا يمكن أن نمر على الموضوع من دون الإشارة إلى تجارب انشقاق أو انسلال فردية لقيادات كان لها دورها في واقع الجماعة الحديث.

وبالانتقال إلى سوريا تاريخيا سنمر بمعاناة الدكتور مصطفى السباعي وسط إخوانه في الخمسينات، وبمحاولة الانشقاق الممولة التي قادها نجيب جويفل. إلا أن الانشقاق العملي الأخطر في تاريخ الجماعة السورية، الذي لا تزال له مفاعيله في بنية الجماعة هو مغادرة النخبة الفكرية والسياسية «الدمشقية» مركب التنظيم في الانشقاق الذي عرف بعنوان «دمشق - حلب». وأزعم أن الإخوان السوريين دفعوا وما زالوا يدفعون ثمنا باهظا للانشقاق المذكور الذي خلف فجوة لم يردمها ولم يجسرها أحد بعد.

بل أجرؤ على الكتابة أن أحداث الثمانينات بأحد وجوهها كانت ثمرة من ثمرات ذلك الانشقاق المرة. تلك الثمرة التي أدت فيما بعد إلى انشقاق الجماعة السورية مرة أخرى في الثمانينات ليعود الصف السوري إلى الالتئام.

إن الانشقاقات ظاهرة عامة تضرب الحياة الحزبية في أكثر نماذجها استقرارا. ولا شك أنها تكون أوضح في المجتمعات التي لا يزال وعيها السياسي يتشكل. والانشقاقات الحزبية ليست عملا سلبيا دائما، ولا سيما تلك التي تأتي ملبية لنداء الأفكار. إذ لا معنى لبقاء أناس ينطلقون من تصورات مختلفة أو يسعون إلى أهداف مرحلية مختلفة، أو يفضلون آليات عمل مختلفة، أو يتمسكون بأخلاقيات مختلفة في فريق عمل واحد.

في الأحزاب ذات المضمون الديني والبُعد العقائدي تبقى «الجوامع» أكثر وضوحا واستقرارا، والغايات الربانية أكثر إقناعا بالصبر على المخالفين، ومن هنا يلحظ المراقب الثبات والاستقرار. يردد المسلم دائما في محنته في مركبه الجماعي «وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون»؟ فيقول: نصبر يا رب.

* قيادي إسلامي سوري، مدير مركز الشرق العربي - لندن