هل يكون تنظيم يقوم على السمع والطاعة عرضة للانقسامات أو صراع الأجنحة؟»

نعم - ... كل تنظيم يقوم على «السمع والطاعة» عرضة للانقسامات وصراع الأجنحة

TT

تكشف جل الدراسات السياسية والاستراتيجية عن تطورات التنظيمات السياسية الحزبية عامة والعقادية خاصة في العالم الإسلامي أنها تقوم على مجموعة من «الثوابت» و«المسلمات»، على رأسها قاعدة «السمع والطاعة» للقيادة المركزية وللزعيم أو «المرشد». وتأخذ قاعدة «السمع والطاعة» أبعادا أهم وأخطر في التنظيمات السياسية العقائدية الدينية، مثل تنظيم الإخوان المسلمين والجماعات المتفرعة عنه التي تتبع منهجه الحركي على الرغم من الاختلافات في الهيكلة والتسميات.

ولعل من أهم المسلمات في تنظيمات الإخوان المسلمين والأحزاب العقائدية المماثلة في الوطن العربي الإسلامي أن الانتماء الرسمي إليها يبدأ بقَسَم يؤديه العضو الجديد في التنظيم، ينص بالخصوص على الإخلاص لحركته وبالسمع والطاعة لقيادتها «في المنشط والمكره»، أي في الظروف العادية وزمن الشدة، مثل مراحل تعرض التنظيم ومناضليه إلى محن وأزمات.. كحملات القمع والتشويه، أو موجات من الاعتقال والتعذيب والاستنطاقات الأمنية والمطاردات داخل الوطن وخارجه.

وبحكم بقاء جل تنظيمات الإخوان المسلمين في العالم العربي طوال عقود في مرحلة سرية تنظيمية تحسبا لاكتشافها من قبل سلطات الأمن في الأنظمة الشمولية، تضاعف اهتمام قياداتها وزعاماتها بتركيز عقلية «السمع والطاعة» لقواعدهم وأنصارهم. وتلتقي في هذا السياق جل تجارب حركات الإخوان المسلمين مشرقا ومغربا، الذين تتراوح تسميتهم بين «الإخوان المسلمين» و«الجماعة الإسلامية» و«حركة المقاومة الإسلامية» و«حركة مجتمع السلم».. بينما تتراوح تسميات زعيم التنظيم من «أمير الجماعة» إلى «المرشد» و«عضو مكتب الإرشاد» و«رئيس الحركة»، وهو غالبا يُعيّن لمدة غير محددة، أو يجدد انتخابه بصفة شبه آلية في مؤتمرات الحركة تكريسا لعقلية الولاء لأولى الأمر وطاعتهم «في السراء والضراء».

وفي حالات كثيرة يكون المشرف الأول على الجماعة «قائدا مدى الحياة» يلتزم أنصاره بطاعته «في المنشط والمكره».. وإن كانت الحركة التي ينتمي إليها تعلن أنها تناضل للتداول السلمي على السلطة في البلاد، وبضرورة انتخاب المؤسسات التنفيذية والتشريعية، وحتى القضائية التي تشرف على شؤون البلاد والعباد.

ومن خلال ما تكشفه آلاف الوثائق القضائية التي تؤرخ لمسلسلات المحاكمات السياسية التي تعرضت لها جماعات الإخوان المسلمين والمنظمات المتفرعة عنها في مختلف الدول العربية، يتضح أن من أبرز نقاط القوة والضعف في تلك الجماعات اعتمادها على قاعدة «السمع والطاعة» للمشرفين على التنظيم «في المنشط والمكره.. في السراء والضراء.. في ما نحب ونكره..».

هذا الولاء «اللامشروط» لزعماء التنظيم ولقيادته المركزية يذكر بعقلية تنتشر كذلك في جل الأحزاب العلمانية أيضا، وهي «التضامن الحزبي عندما يكون رأي الأغلبية مخالفا لرأي الفرد أو الأقلية»، لكن الأمر يختلف في التنظيمات السياسية العقائدية، مثل جماعات الإخوان المسلمين العربية، حيث تعطى صبغة القداسة و«الواجب الشرعي» للعلاقة الأفقية القائمة بين أمراء الجماعة ومرشديها من جهة وبقية الأعضاء من جهة ثانية.

وعلى الرغم من اعتماد بعض «المدارس الإخوانية» (مثل التجربة التونسية في السبعينات وأوائل الثمانينات) قاعدة الانتخاب والتصويت في اجتماعات القيادة المركزية، فإن المفهوم السائد للشورى والديمقراطية ظل «الشورى المخبرة» (أي التي يستنير بها أمير الجماعة أو رئيس الحركة) وليس «الشورى الملزمة» (التي تجبره على اتخاذ قرارات قد تكون معارضة لتوجهاته وخياراته).

لكن استقراء مسيرة الجماعات الإسلامية، وخاصة جماعة الإخوان المسلمين، يكشف أن منطق «السمع والطاعة في المنشط والمكره.. في السراء والضراء» تسبب غالبا في سلسلة من الانقسامات والانشقاقات، وبروز «متمردين» من داخل التنظيم في شكل أفراد ومجموعات، مثلما تكشفه قائمة «الجماعات الإسلامية» التي برزت في مصر والبلدان المغاربية منذ السبعينات، وجلها خرج من رحم «الإخوان المسلمين».

ولقد تكررت الظاهرة نفسها في تونس ومصر والأردن والسودان والجزائر بعد انفتاح أنظمتها على التعددية الحزبية.. حيث خرجت «أحزاب وحركات إسلامية كثيرة» من رحم حركات النهضة التونسية و«حمس» و«النهضة والإصلاح» الجزائريتين.. ومن حركتي «العدالة والتنمية» و«العدل والإحسان» في المغرب.. إلخ. ولعل من أهم ما يفسر سرعة انفجار التناقضات الداخلية في الجماعات العقائدية المرجعيات الإسلامية لنشطائها.

ولقد أكدت تجارب تلك الجماعات والتنظيمات أن نسبة كبيرة من نشطائها الذين يبدأون مسيرتهم داخل التنظيم بعقلية «المريد الصوفي» الذي يكاد يقدس شيخه، يتطور لاحقا عندما يحتك بالواقع وتعقيداته، ويتعمق في دراساته الإسلامية وفي مطالعاته الفكرية والعلمية المختلفة، فيتحول من «مريد» إلى «متمرد»، وتبرز بوادر التمرد، خاصة إذا تعمق المناضل في دراسة مقاصد التشريع في الإسلام التي كرمت الإنسان، وأوضحت أن الدين جاء رحمة للناس، وأن من أبرز أهدافه «جلب المصلحة ودرء المفسدة»، وليس تجميد دور العقل والفكر.

وإذا سلمنا جدلا بأن الأزمات تفجر دوما التناقضات الداخلية والانشقاقات، فإن تلك الأزمات تكون في التنظيمات التي تقوم على السمع والطاعة منطلقا لمحاسبة القيادة المركزية للتنظيم السري. وعندما يشعر المنتمون إلى التنظيم أن ثمن تلك الأخطاء كان باهظا جدا وكلفهم خسائر سياسية ميدانيا واعتقالات ومحاكمات ومشردين ومنفيين، تبرز داخل المنتمين للتنظيمات الإخوانية في السجون والمنافي حملات «نقد ذاتي» و«محاسبة»، تبرز الأخطاء البشرية للقيادة التي كانوا مُطالَبين بطاعتها «في المنشط والمكره».

وبعد الاقتناع بأن أخطاء «أمراء» الحركة ومجالسها الشورية المركزية كانت من نوع «الأخطاء القاتلة» تتعاقب الانشقاقات وظواهر التصدع الداخلي، وهذا ما يفسر «فسيفساء» الأحزاب والحركات الإسلامية من شتى الأنواع في المنطقة العربية، لا سيما في العراق ما بعد 2003، وبلدان «الربيع العربي» بعد 2011.. وقبل ذلك في الجزائر.

* كاتب ومحلل سياسي تونسي