هل يمكن وصف تبدل الموقفين الفرنسي والبريطاني من تسليح ثوار سوريا بالخذلان؟

لا. .. لقد أدرك الغرب الآن أنه لا مصلحة له في إسقاط النظام السوري

TT

بعد أشهر من التصعيد الكلامي والتحضير النفسي الهادف إلى تليين الرأي العام وتقديم الدعم السياسي للمعارضة السورية، انهمكت بريطانيا وفرنسا خلال الشهرين الفائتين في عملية تراجع ونكوص محموم.

لعدة أشهر خلت حاول دبلوماسيو وزارتي الخارجية البريطانية والفرنسية جهد طاقتهم، تحت توجيهات سياسية واضحة، إقناع نظرائهم الأوروبيين بأن حكم آل الأسد، آخر حصون الديكتاتورية والتسلط في الشرق الأوسط، يمكن إزاحته عن السلطة بمزيج من وحدة الجهد الدبلوماسي والتدخل العسكري على الأرض. بمعنى آخر.. تكرار تجربة ليبيا ولكن من دون سلبياتها. وحتى بعدما تجاوز عدد القتلى في سوريا خط الـ100 ألف قتيل وتضخم عدد المشردين واللاجئين إلى الملايين، ما كان ممكنا إقناع وزير الخارجية البريطانية ويليام هيغ بصرف النظر عن تصعيده الدعوات التهديدية المتشددة لإسقاط حكم الأسد.

حقيقة الأمر أن الحملة الدبلوماسية البريطانية الفرنسية باءت بالفشل. وكانت النقطة المفصلية في أواخر مايو (أيار) الماضي، عندما صوتت بريطانيا وفرنسا فقط على رفع حظر السلاح خلال تصويت الاتحاد الأوروبي لتمديد مفعول قرار حظر السلاح في سوريا، بينما كانت مواقف باقي الدول الأوروبية في الاتجاه الآخر.

ما كان مقدرا للأمور لتكون على هذه الصورة. إذ عندما وافقت الولايات المتحدة على تقديم الدعم العسكري الفتاك للثوار - كرد فعل على التقارير غير المؤكدة عن استخدام الأسد الأسلحة الكيماوية ضد خصومه – اختار رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون تغيير الموقف البريطاني الرسمي، وذلك عندما أعلن في منتصف يونيو (حزيران) أن لندن «لم تتخذ أي قرار» حول تسليح الثوار السوريين.

ثم ازداد الارتباك بعد بضعة أيام، خلال «قمة مجموعة الثماني»، عندما أبلغ كل من هيغ وكاميرون القادة العالميين الحاضرين بأن عليهم واجب حماية الثوار من «التعرض للإفناء». ومن ثم تعقدت مشكلتا الزعيمين البريطانيين عندما أدلى عمدة لندن بوريس جونسون - المنافس المستقبلي المحتمل على زعامة حزب المحافظين – بتصريحات وأعلن على الملأ أنه ليس بمقدور بريطانيا إنهاء الأزمة السورية عبر «زج السلاح في أيدي جماعات مأفونة متطرفة» في إشارة إلى الثوار. وهكذا كشف كلام جونسون مدى الاضطراب والانقسام الذي فرضته الحالة السورية على الحكومة البريطانية.

لكن في هذه الأثناء، بدأت همة الأميركيين تفتر أيضا إزاء التدخل في سوريا. وبعدما سهلت واشنطن تسليم أسلحة تقدر قيمتها بملايين الدولارات من بعض الدول الخليجية عبر جنوب تركيا لدعم الثوار، وأرسلت «مستشارين» لتدريب وإعداد مقاتلين جدد، أخذ الرئيس باراك أوباما يتراجع عن فكرة فرض قطاع حظر طيران، وهو ما كان يدعمه «صقور» القوى الداعمة لإسرائيل في واشنطن، وجاء هذا التراجع الأميركي مع إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بكل حزم وجلاء، أن بلاده ستمضي قدما في تسليم نظام الأسد صواريخ «إس 300»، ولن تخل إطلاقا بالتزاماتها لدمشق.

بناء على ما تقدم، ومن خلال القراءة بين السطور، يتضح أنه حصلت عملية «إعادة تقييم» في كل من واشنطن ولندن لسياستهما السورية، وكسب المعركة الناصحون والمستشارون العقلاء. ولعل، بعضهم، وهم على الأرجح من مجتمع الاستخباراتيين، تنبهوا في نهاية المطاف إلى ما هو بديهي، وهو أن القوى الأكثر فاعلية التي تقاتل نظام الأسد على الأرض - أي الجماعات الإسلامية الراديكالية - هي نفسها الجماعات التي لا يمكن وقفها عند حدها بعد إنجاز «تحرير» دمشق. ثم إنها لن تكن للغرب أي عرفان بالجميل على الدعم الذي قدمه أو يمكن أن يقدمه.

قرار قادة «جبهة النصرة» بإعلان الولاء لـ«القاعدة»، على الأرجح، كان القشة التي قصمت ظهر البعير. كذلك ظهر على موقع «يو تيوب» شريط فيديو يظهر فيه جهادي سوري وكأنه يأكل كبد أحد قتلى أتباع النظام.. وكان له وقعه السيئ جدا. ثم لوحظ توجه مئات الجهاديين الأوروبيين إلى سوريا للمشاركة في القتال. وبعدها ظهر دليل على أن قوات الأسد لم تكن الجهة الوحيدة التي يزعم أنها استخدمت الأسلحة الكيماوية، بل وقعت كميات كبيرة من هذه الأسلحة في أيدي أتباع قائد «القاعدة» أيمن الظواهري.

خلف كل هذا تبرز أيضا صورة أكبر. فتحالف دمشق مع طهران أدى إلى تدفق آلاف المقاتلين من اللبنانيين الشيعة عبر الحدود السورية لمقاتلة الثوار السنة وإلحاق عدة هزائم بهم، لا سيما في جبهة حمص. وبالتالي، امتد الاضطراب الحاصل للانتفاضة السورية بسرعة كبيرة إلى داخل لبنان، الذي هو بدوره أشبه ما يكون ببرميل بارود تكفي شرارة واحدة لتفجيره.

ثم من سيستفيد من سقوط الأسد؟

هل يقلق الغرب حقا خط أنابيب إيراني للنفط والغاز لتصديرهما إلى أوروبا عبر سوريا؟

ألا نقلق من الاضطراب الداخلي في تركيا، حيث تساور الهواجس أقليتها الكردية لدى نظرهم إلى مصير إخوانهم الأكراد في سوريا المجاورة، ولا سيما بعد تعهد أكراد العراق بالتدخل لحماية أكراد سوريا من هجمات زمر الثوار المرتبطين بـ«القاعدة».

وماذا عن إيران؟ تحت حكم الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد كانت إيران دولة تهييجية غير منضبطة، ديدنها تهديد إسرائيل والولايات المتحدة. لكننا اليوم نشهد تولي رئيس جديد يطلق تصريحات تصالحية ويسعى إلى ترميم العلاقات مع الغرب. فهل هذا الوقت مناسب لضرب أحد حلفائه؟

في قلب الحكومتين البريطانية والفرنسية من أمعن النظر جيدا في الحقائق على الأرض في سوريا، وقرر أن الحيطة هي الخيار الصحيح.

هل في هذا خذلان للشعب السوري؟ أشك في ذلك كثيرا. إن قلة قليلة جدا في سوريا ستكون ممتنة للغرب بإشعاله مواجهة سنية – شيعية، ومن ثم رعاية ولادة معقل جديد لـ«القاعدة».

* صحافي وكاتب بريطاني