السؤال الأول: هل هناك معايير يجب أن تحكم الإعلام الساخر؟

نعم... أنا مع وجود معايير.. لكنني ضد الضوابط القانونية

TT

يستفزني - كصحافي - وجود رقيب رسمي أو خاص على أقوالي وكتاباتي وعلى أفكاري وضميري الحي. يضحكني رجل الأمن الذي يحاول أن يتقمص شخصية المفتش ميغريه لاستنباط جرم حسي من مقال ساخر أو من قصيدة. يؤلمني أن يكون الكتَّاب الساخرون أو أصحاب البرامج التلفزيونية الساخرة على قائمة المرشحين الدائمين للادعاء عليهم بإثارة النعرات.

وفوق ذلك، ولا مرة كتبت مقالا يستهدف زعيما أو قائدا ملهما أو مرشدا للأمة أو نائبا متواضع الذكاء ووضعت قانون المطبوعات على طاولتي لاستبيان ما تنص عليه عقوبة «القدح» بهذا و«الذم» بذاك. وهاتان التهمتان مطاطتان وتسهمان في إضعاف المناعة الوطنية. أتدرون ما يعني هذا الجرم في سوريا - الأسدين؟ اسألوا المفكرين والصحافيين وعظام من جرؤ وسخر ومات.

خلقت في لبنان حرا والكتابة الساخرة هنا، كما الجادة، تمثل أرقى تجليات الحرية منذ العقد الأول من القرن الماضي مع صحيفة «هبت» إلى قرن دكتور باسم يوسف وأقرانه اللبنانيين. لم أسأل نفسي يوما كيف كان لي أن أمارس حريتي لو ولدتني أمي في «زنقة» من زنقات مصراتة في الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى! في الواقع لا أعرف ما كنت سأكون عليه في رحاب الفاتح من سبتمبر أو في اليمن غير السعيد أو... في أي بقعة من بقاع العرب.

ما سبق يشي بأنني معارض شرس لوجود معايير تضبط الإعلام الساخر. حقيقة الأمر لا. أنا مع وجود معايير وليس ضوابط قانونية، وأولها: أن يكون الكاتب الساخر خفيف الظل، حاضر النكتة، لماحا، مثقفا، ذكيا لا يفتعل الطرافة ويعتدي علينا بسماجته المعترف بها دوليا.

المعيار الثاني: ألا يتعرض الكاتب لشخصية عامة انطلاقا من عيب خلقي... كمثل العرج أو الحول أو الطول أو النطق السيئ أو التأتأة والفأفأة واللثغ بثلاثة أرباع أحرف الأبجدية العربية واللاتينية.

المعيار الثالث: يجب على الكاتب أن يفرق بين ما يقوله ضمن شلة أصدقاء لا يتعدى أفرادها عدد أصابع اليدين والقدمين وبين ما يكتبه لألف أو ألفي قارئ وما يقدمه كمادة تلفزيونية لآلاف مؤلفة من كل الفئات العمرية والمستويات ذكورا وإناث و«بين بين». إن لم يحسن الكاتب التمييز بين جمهوره الصغير والجمهور العريض فتلك مصيبة، وإن لم يدرك صاحب المحطة مقدار الضرر الذي يلحقه بعض المقدمين الساخرين بالمشاهدين الناضجين وبالقاصرين فالمصيبة أكبر. من هنا ضرورة أن تحدد إدارة المحطة بوضوح الخطوط الحمراء وتضعها - كما يقول إخواننا المصريون - «حلقة بودان» كل بهلواني «يتسعدن» على هوائها.

المعيار الرابع: السخرية ليست شتيمة. سواء بالرسم الكاريكاتيري أو الرسم بالكلمات. هي موهبة نادرة. الشتامون في العالم العربي يملأون بيض الصحائف وسودها والصفر، بينما الأدباء الساخرون صنف على طريق الانقراض. لذا يجب قطع الطريق على الشتامين ومنعهم من الظهور وبخ السموم على كل إعلام بدلا من إضفاء نكهة خاصة على النقد السياسي والاجتماعي.

المعيار الخامس: احترام خصوصية البلد ومعتقداته وقيمه. لا يقصر الكتاب ومقدمو البرامج المصريون بحق الـ«سي مرسي» وهم أدرى من اللبنانيين بهوامش الحرية المتاحة أو تلك التي يقضمونها بذكاء. والكتاب الخليجيون أيضا يعرفون طبيعة بلدانهم والمغاربة أدرى بمساحات التعبير ومداها. لذا آليت على نفسي ألا أدس أنفي في قضايا الآخرين ولا أتناول زعاماتهم إلا في حالات محددة. وزير الإعلام السوري عمران الزعبي مثلا تحول بفعل الحرب والممارسة إلى ظاهرة تشبه صحاف صدام حسين، فإن تجنبت - شخصيا - الكتابة عنه، يطل برأسه التعبيري من شاشة الكومبيوتر كي أحلق له على الناشف. هذا ما فعلته. ورئيس الدبلوماسية السورية لا أتخيله إلا معد برنامج طبخ في شهر رمضان. أما مواقف الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد فتشكل مادة غنية لأي كاتب في الشرق والغرب. فلنتشارك والإيرانيون في التعبير عن إعجابنا برأسه النووي. ما أبيحه لنفسي أحلله - أخلاقيا - للآخرين.

جميل أن يكتب زميل سوداني عن الجنرال «ميشال عون» مع إدراكي لصعوبة وجود اختصاصي في «ملش» أرياش العماد عون وفصفصة مواقفه المتناقضة كسعادتي! فليتول إذن كل ناقد لذع منقوده وليلعب كل كاتب في ملعبه.

المعيار السادس: يجب أن تتجنب الكتابة الساخرة (كما برامج الفضفضة) المس بالمعتقدات الدينية وتحييد أصحاب المقامات الدينية ممن لا يتعاطون الشأن السياسي بمفهومه الواسع والتفصيلي والميداني ومن غير المنخرطين في «الإرهاب» أو «التحريض» تحت تسميات «النضال» و«الجهاد».

أما أن يكون الإعلام الساخر نجح أو فشل حيث فشل الإعلام الجاد، فالنجاح هنا أو الفشل هناك مسألتان يحسمهما المشاهدون الكرام، والسادة القراء، وعلى سبيل المثال فإن نسبة مشاهدي DNA الزميل نديم قطيش على قناة «المستقبل» أعلى من نسبة مشاهدي نشرة المحطة المسائية بكثير. وبمعزل عن النسب وصحتها نحن أبناء زمن العبوس والحروب والثورات وصواريخ العوائل وعبوات الأحبة من المفيد والصحي لنا في آن، أن نضحك قليلا... ولو على حالنا.

* كاتب وإعلامي لبناني