... وهل نجح الإعلام الساخر حيث لم ينجح الإعلام الجاد؟

نعم... استطاع أن يكسب قلوب الملايين عندما شعروا أنه يعبر عنهم

TT

كتبت مرة في افتتاحية مقال سابق: «إن الإعلام الرسمي العربي أفضل محام يخدم الخصم.. فما وقف الإعلام الرسمي العربي مع قضية عربية إلا وخسرناها.. ولو يركز تلفزيون أي دولة أو صحيفتها الرسمية على واجب محبة (الأم) مثلا.. لكرهنا أمهاتنا جميعا من ثاني نشرة إخبارية أو افتتاحية صحافية».

أعتقد أن الإعلام الساخر استطاع أن يكسب قلوب الملايين من الشعوب العربية، عندما شعروا أنه إعلام «شعبي» ويحمل في طياته ألما «شوارعيا» ليس بالمعنى السلبي لا سمح الله.. وإنما بالمعنى الإيجابي. ولقد لاحظنا جميعا كيف لعب الإعلام الساخر من تلفزيون ومواقع تواصل اجتماعي «فيس بوك» و«تويتر» و«يوتيوب» دورا حاسما في «ثورة 25 يناير (كانون الثاني)» في مصر عندما لم يصمد نظام مبارك أمام «كرتونة» رفعت في ميدان التحرير، والدليل على ذلك أننا ما زلنا نحفظ ونردد عشرات النكات و«القفشات» والعبارات التي كتبت وقيلت في ذلك الوقت.. بينما أتحدى أن يستطيع أي مواطن عربي أن يتلو لنا جملة واحدة قالها مبارك في خطابه الأخير، أو أي زعيم عربي آخر.

وما حدث في 25 يناير 2011 تكرر في 30 يونيو (حزيران) 2013 في ميدان التحرير، حيث انتصر الإعلام الساخر على الإعلام الجاد جدا بغض النظر عن رأينا بما كان يقدم (صحيح أو تجريح)، وللأمانة انحرفت بعض وسائل الإعلام عن المهنية والموضوعية وحتى عن السخرية في أحداث مصر الأخيرة، لكن هذا لا يمنعنا الاعتراف بأن الإعلام الجاد لم يصمد أمام صليات الإعلام الساخر بل انصهر وخر ولم يعد يقاوم. ببساطة لأن من يواجه الإعلام الحديث بإعلام كلاسيكي وخطاب عتيق تماما كمن يتصدى لطائرة «إف 16» بسيف!! وحتى لا نتهم بالغرور أو تقمص دور البطولة نحن ككتاب وإعلاميين ساخرين، فقط أريد أن أقول أي إعلام يتسم بالواقعية والمنطقية بعيدا عن التضخيم أو الترخيم.. حتما سينجح ويكسب المعركة وعقول وقلوب الناس، بغض النظر عن تقاسيمه أجادا كان أم ساخرا.

من ناحية ثانية، أنا أومن بأن أي شيء في هذه الدنيا لا تحكمه معايير وضوابط حتما سيصبح الابن الشرعي للفوضى والفلتان ثم التهاوي والسقوط. وعندما نتكلم عن الإعلام بشكل عام والإعلام الساخر بشكل خاص فإننا نتكلم عن أخطر كائن خطابي يحتل صدارة «الميديا» الجديدة، وهذا الكائن إذا لم يحمل رسالة وهدفا في مضمون طرحه تبقيه على بريته وحريته والتزامه الفطري والمهني، فإنه سيتحول إما إلى كائن مفترس لا يفرق بين صديقه وعدوه، وإما أن يدجن ويصبح طيعا كنمور السيرك يؤدي بعض الحركات وبعض الإيماءات وينجح في تطبيق بعض الإشارات حسب نظرات مدربه أو عصا مروضه.

عندما نتكلم عن معايير تحكم الإعلام الساخر، فإننا بالطبع لا نتكلم هنا عن معايير «دستورية» أو «فرمانات» مكتوبة على الإطلاق، وإنما هي معايير مهنية وأخلاقية يجب أن يلتزم بها من يلبس وجع الشارع ويستعير لسانهم وينبض بوجدانهم سواء كان ما يقدم مرئيا أو مسموعا أو مكتوبا.

من هذه المعايير، على سبيل المثال لا الحصر، احترام الديانة والمعتقد والفكر بغض النظر في أي زاوية من «النقيض» تقف هذه الأشياء من فكر ومعتقد ورأي الإعلامي الساخر.

ثانيا: أن يكون الموضوع الساخر له قيمه وهدف.. أما السخرية لأجل السخرية فقط للإضحاك دون إيجاد رسالة وعنوان ومرسل إليه يصبح «تأتأة إعلامية» وشيئا يشبه «مضغ الهواء».. لا طعم ولا لون ولا فائدة منه، وأحيانا ضياع الرسالة أو استهلاك الأفكار الساخرة تجبر بعض الإعلاميين على اللجوء والاتكاء على الأسهل، وهو محاولة تقزيم الآخر أو النيل منه بالاستهزاء، حيث يصبح كل ما يطرح مجرد تهريج و«نثر كلام ساذج» ليس إلا.

ثالثا: على الإعلام الساخر أن يتسم بالموضوعية بعيدا عن التجريح وإهانة الآخر وتحاشي المصالح الشخصية أو المكاسب من السلطة أو استمالة أحد من القوى المتصارعة على حساب المصلحة الوطنية.

ورابعا.. أو أخيرا وليس آخرا، أهم معيار من وجهة نظري هو احترام المتلقي.. ولا يتم احترام المتلقي إلا من خلال احترام وعيه وذكائه ومشاعره... فصناعة الإعلام الساخر تشبه الصناعة النووية، إما أن تنير مدينة وتفجر طاقتها.. وإما أن تدمرها وتشوه طريقة الابتسام فيها.

* كاتب وصحافي أردني